كيف لجسده الأبكم محاورة أنوثتها الصارخة؟ وكيف لها أن تتعرّى أمام رجلٍ لم تجرؤ يوماً على أن تُعرّي أمامه صوتها؟
من تناقض طباعهما، أدركت أنّ الحب، قبل أن يكون كيمياء، هو إيقاع كائنين متناغمين، كأزواج الطيور والفراش التي تطير وتحطّ معاً، دون أن تتبادل إشارة.
الحبّ هو اثنان يضحكان للأشياء نفسها، يحزنان في اللحظة نفسها، يشتعلان وينطفئان معاً بعود كبريت واحد، دون تنسيق أو اّتفاق.
معه كان عود الثقاب رطباً لا يصلح لإشعال فتيلة!
***
استيقظت على منظر الورود التي ازدادت تفتّحاً أثناء الليل. لولا أنّها تنقصها قطرات الندى لتبدو أجمل، فهكذا اعتادت رؤيتها في طفولتها في صباحات مروانة الباكرة. تدري أنّه ما من أمل في أن يتساقط الندى على ورود المزهريّات أو يحطّ على مخادع الفتيات الوحيدات!
وحدها الورود التي تنام عارية ملتحفة السماء، مستندة إلى غصنها، تحظى بالندى. لكن حتّى متى بإمكان غصن أن يسند وردة ويُبقيها متفتّحة؟ سيغدر بها، وسيسلّمها إلى شيخوختها غير آبه بتساقط أوراق عمرها.
ذكّرتها الورود بالزوال الآثم للجمال، في عزّ تفتّحها تكون الوردة أقرب إلى الذبول، وكذا كلّ شيء يبلغ ذروته، يزداد قرباً من زواله. فما الفرق إذاً بين أن تذبل وردة على غصن أو في مزهريّة؟
24
في الواقع أيقظها اتصال من إحدى الصديقات في الجزائر، تهنئها على حلقة أمس وتبشّرها بأنّ ((كلّ الناس في الجزائر شافوها )). نقلت أيضاً إليها سلام زميلة سابقة في المدرسة:
- نصيرة تسلّم عليك بزّاف.. طلبت منّي تلفونك واش نعطيهو لها؟ بالمناسبة..قالت لي باللّي مصطفى تزّوج أستاذة جات جديدة للمدرسة وطلب نقلهم للتدريس في باتنة.
كنقرة على نافذة الذاكرة، جاء ذكره. شيء من الأسى عبرها. حنين صباحي لزمن تدري الآن أنه لن يعود. لعلّها الذكريات تطوّق سريرها، وحين ستستيقظ تماماً، ستنسى أن تفكرّ في ذلك الرجل الذي أصبح إذاً لامرأة أخرى!
امرأة تحمل اسمه، ستحبل منه في ساعة من ساعات الليل أو النهار. امرأة لا تعرفها ستسرق منها ولدين أو ثلاثة، لكنّها لن تأخذ أكثر. لن يمنحها ضحكته تلك. الزواج سيغتال بهجته وروحه المرحة... وفي هذا خُبث عزائها.
مصطفى هو الوحيد الدي كان من الممكن أن يسعدها. كانت تحبّ طلّته المميّزة، أناقة هيئته، شجاعة مواقفه، طرافة سخريته حين يغازلها بطريقة جزائريّة مبتكرة حسب الأحداث، كيوم قال لها (( أفضّل، على إرهاب البنات، الإرهابيين.. على الأقلّ هم لا يغدرون بك. يَشهرون نواياهم، يصيحون ((الله أكبر)) قبل الانقضاض عليك بسواطيرهم وسكاكينهم. البنات يُجهزن عليك دون تنبيهك لما سيحلّ بك. عندما تصرخ يكون قد تأخّر الوقت، الله يرحمك.. ((أكلك فوكس)). لو أصرخ الآن مثلاً وأقول إنّك ذبحتِني وأنت ترفعين خصلة شعرك، أو تنسين زرًّا مفتوحاً أعلى ثوبك، لن يأتي أحد لنجدتي، فالقتل إغراءً لا يعتبر عنفاً.. لأنّه جريمة غير معلنة تحبب للضحيّة موتها!)).
25
ذات مرّة في زمن المذابح، كاد يقتلها ذعراً وهو يستقبلها في الصباح سائلاً:
- هل صادفتِ في طريقك سيّارة إسعاف؟
ردّت مرعوبة:
- لا.. لم ألحظ ذلك.. هل حدث شيء؟
أجاب بجدَّيَّة:
- أتوقّع أن تحدث أشياء.. لا بد أن تلحق بك سيّارة إسعاف لجمع الجرحى من الطرقات وأنتِ تمشين هكذا.. على صباح ربّي!
مصطفى تمنّته زوجاً. الحياة معه لها خِفّةُ دمه، والقلب لا تجاعيد له. ربّما كان يمكن أن يحدث ذلك لو أنّها بقيت في مروانة. لكن الأحداث تسارعت بعد اغتيال والدها، وأخذت مجرى تجاوزه أمنياتها.
لم يُمهلها القدر وقتاً كافياً لقصّة حبّ. في مدينتها تلك، الحبّ ضرب من الإثم، لايدري المرء أين يهرب ليعيشه.. في سيّارة؟ أم في قاعة المعلّمين؟ أم على مقعد في حديقة عامّة؟
الخيار هو بين تفاوت الشبهات ليس أكثر. آخر مرّة حاولا الجلوس على كرسيّ في حديقة، كان مجرّد الجلوس معاً فضيحة انتشرت بسرعة ((خبر عاجل)).
كان يمكن أن تكون الكارثة أكبر، إذا يحدث أن تدهم قوات الأمن الحدائق وتحقق مع كل اثنين يجلسان متجاورين.
26
في نوبة من نوبات العفّة، ألقي القبض ذات مرّة في العاصمة على أربعين شاباً وصبيّة معظمهم من الجامعييّن، وأودعوا السجن فيما كان الإرهابيّون يغادرونه بالمئات مستفيدين من قانون العفو! كان زمناً من الأسلم فيه أن تكون قاتلاً على أن تكون عاشقاً.
في تلك المرّة الوحيدة التي زارا فيها حديقة عامّة، أصيبت بالذعر حين مرّ بهما أحد المختلّين وهو يتشاجر مع نفسه، ويشتم المارّة ويهدّدهم بحجارة في يده. ظاهرة شاعت بسبب فقدان البعض صوابهم، وتشرّد الآلاف إثر ((عشريّة الدم )) – سنوات الإرهاب العشر – وما حلّ بالناس من غبن وأهوال.
مازالت تضحك لتعليق مصطفى يومذاك وهو يطمئنها:
- لاتخافي، نحن هنا في عصمة المجانين.. إدا دهمتنا الشرطة فسأتظاهر بالجنون وأضربك فينصرفون عنّا.. إنّهم لا يتدخّلون إلا إذا قبّلتك!
لأنها لم تميزّ يوماً جدّه من مزاحه ردّت محذّرة:
- إيّاك أن تفعل.. أجننت؟
أجاب ممازحاً:
-ما أدراكِ.. ربّما ما كنتُ عاقلاً! تدرين أن نسبة الجزائريين الذين يعانون من اضطرابات نفسيّة أو عقليّة، تتجاوز حسب آخر الإحصاءات 10%. نحن نملك بدون منازع أكبر مؤسّسة لإنتاج الجنون. من منجزاتنا أن عدد مجانيننا بعد الاستقلال تجاوز عدد شهدائنا أثناء الثورة.
- معقول؟!
27
- إيه والله.. الرقم من مصادر طبيّة. ما الدي يُخرج المرء عن صوابه غير أن يرى لصوصاً فوق المحاسبة.. ينهبون ولا يشبعون، ويضعون أيديهم في جيبك، ويخطفون اللقمة من فمك، ولا يستحون! إنّه القهر والظلم و ((الحقرة)) ما أوصل الناس للجنون. إذا فقد الجزائري كرامته فقد صوابه، لأنه ليس مبرمجاً جينياً للتأقلم مع الإهانة، كيف تُريدين أن أتزّوج وأنجب أولاداً في عالم مختلٍّ كهذا؟
كانت تلك المرّة الوحيدة التي جاء بها على ذكر الزواج. صدّقت أنّه لهذا السبب لن يطلب يدها.
غادرت سريرها حتّى لاتترك غيوم الماضي تُفسد مزاجها.
بدأت صباحها بملعقة عسل دافئ. يجب ألّا يكون لها من شاغل إلّا صوتها. لسنوات كان هذا هاجس والدها الذي صان صوته، بقدر ماحرس صمتها. لذا أراد لها مهنة لا يُسمع لها فيها صوت، إلّا بين جدران الصفّ الأربعة.
أبهذا الصوت نفسه كانت تشرح لساعات قواعد النحو واللغة، وتلقّن التلاميذ المحفوظات، وتعيد وتكرّر لكل تلميذ على حدة ما لم يفهم؟ صوتٌ كان يقول كلمات من طباشير، تمحوها عن اللوح في آخر الدرس. اليوم كلّ نفسٍ في صوتها يوثّق ويحُفظ إلى الأبد على شريط مضغوط.
أوّل ما لقّنوها حماية صوتها من نزلات البرد، ومن التلوّث ومن دخان السجائر. وماذا عن الألم ووعكات القلب حين تغصّ بها الحنجرة، فيختنق صوتك رافضاً النطق؟
28
يوم تسجيل ألبومها، اعتذرت لمهندس الصوت، مطالبة بإعادة تسجيل تلك الأغنية مجدّداً. بعد المحاولة الثانية، نصحها أن تستسلم لأحاسيسها كما لو كانت تغنّي لنفسها، وألّا تقمع أيّ مشاعر حتّى لو كانت الرغبة في البكاء، مستشهداً بقصّة سيرج غانسبور)) في الثمانينيّات حين قال لزوجته النجمة جين بيركين: ((je suis venu te dire que je m'en vais)) فأجهشت جين بالبكاء. وماكانت تدري وهي تنتحب أنّه كان يسجّل بكاءها ،كي يرفقه بالأغنية التي ستحمل عنوان ماقاله لها ((جئت أخبرك أنّني راحل )).كان في الواقع إعلاناً حقيقيًّا لهجرانها!
أِمنَ النبل أن نوثّق دموع الآخرين في أغنية نتخلّى فيها عنهم؟ نحن نملك دموعنا لا دموع من أحبّونا.. أمّا هي فلا تملك حتّى دموعها. مايمنعها ليس خوفها من الإخفاق في بروفا البكاء،بل ما أورثوها من كبرياء في مواجهة الدموع.
ماكان جدّها ليتصوّرها يوماً واقفة خلف الميكروفون باكية، حتّى وإن كانت تؤدّي أكثر أغاني مروانة حزناً. قد يغفر لها الغناء، لكن لن يغفر لها البكاء، ففي مروانة، عن حياء، لايبكي الناس إلّا غناءً. يأتون الحياة وهم يغنّون، صرختهم الأولى بداية شجنٍ يستمرّ مدى العمر. فالحزن في جموحه يغادر مآقيهم ليتحوّل في حناجرهم مواويل. لذا، هم منذورون للفجائع الكبرى، فالعواطف العاديّة، كما الخسائر الصغرى، لاتصنع لديهم أغنية. في تطّرفه، يعطيك المرواني انطباعاً بلامبالاته بهموم الحياة. في الواقع هو يحوّل همّه الأكبر غناء، ما لا يغنّيه ليس همّه.. إنه يُهين كل ما لا يُغنيّه.
29
استعادت جأشها، وعاودت أداء تلك الأغنية نفسها التي غنّتها في أربعين أبيها. ماتوقّعت يومذاك أنّها تغنّي قدرها، فقد غنّاها قلبها عيسى الجرموني وأبوها وجدها ومغنّو الأوراس جميعهم، فلماذا حلّت لعنتها عليها وحدها، وإذا بالحياة تقلّد الأغنية، وتأخذ منها رجلين لا رجلاً واحداً!
ماكانت لتدري بقصة تلك الأغنية، لولا أنّ المؤرّخين وثّقوا تفاصيلها. لقلّة معرفتها باللهجة الشاويّة، غنّتها من دون أن تفهم تماماً كلماتها، لكنّ الألم تولىّ إخبارها بما لا تعلم.
لعلّ مروانة كانت تحتاج إلى فاجعة كبيرة تمنحها فرصة إهداء أغنية إلى آلهة الحزن تليق بحناجر أبنائها، وقلوبهم المولعة بقصص العشق المفضي إلى الموت.. فاستجابت الحياة لأمنيتها.
يُحكى أنّه ذاع صيت جمال إحدى الفلاّحات حتّى تجاوز حدود قريتها، فتقدّم لخطبتها أحد الباشاغات، لكنّها رفضته لأنها كانت تحب ابن عمّها. عندما علم الباشاغا بزواجها، استشاط غيظاً ولم يغفر لها أن تفضّل عليه راعياً. فدبّر مكيدة لزوجها وقتله. كانت حاملاً، فانتظر أن تضع مولودها، وتُنهي عدّتها، ثمّ عاود طلبها للزواج. وكانت قد أطلقت اسم زوجها على مولودها فردّت عليه ((إن كنتَ أخدت مني عيّاش الأوّل فإنّي نذرت حياتي لعيّاش الثاني))، فازداد حقده، وخيّرها بين أن تتزوجه أو يقتل وليدها، فأجابته بأنها لن تكون له مهما فعل.
ذات يوم، عادت من الحقل فلم تجد رضيعها، وبعد أن أعياها البحث، هرعت إلى المقبرة، فرأت تراباً طرياً لقبرٍ صغيرٍ، فأدركت أنه قبر ابنها، وراحت تنوح عند القبر و((تعدّد)) بالشاويّة بما يشبه الغناء((آااعياش يا ممّي)). فأقبل الناس عند سماعها تنادي((ياعيّاش يا ابني)) يسألون ما الخطب، وما استطاعوا العودة بها، فلقد لزمت القبر الصغير وظلت تغنّي حتى لحقت بوليدها وزوجها. ففي مروانة، يُفتدي الراحلون بالغناء حتّى اللحاق بهم. ذلك أن لاوسط ولا اعتدال في طباع أبنائها، إنهم يمارسون كلّ شيء بلا رحمة.
30
أكثر مايُبكيها وهي تسجّل تلك الأغنية، إدراكها أن أمّها ستظلّ تستمع إلى هذا الشريط، برغم عدم فهمها للشاويّة، وغربتها عن هذا النوع من الغناء. فما عاد لها من عزاء إلا في نواح هذه الأغنية، التي أرادت لها الحياة أن تسمعها بصوت زوجها ثمّ ابنتها، مردّدة كلمات امرأة أخرى، هي أخت مصابها، مثلها، سرق منها الموت ابنها وزوجها.
***
عاد إلى البيت بعد انتهائه من عشاء عمل طويل.
كان متعباً من السفر والاجتماعات المتواصلة حتى المساء. انتهت اعماله تقريباً، لكنه يحتاج تمديد إقامته ليرتاح بعض الوقت في باريس.
في بيروت هو دوماً مزدحم بـ((الأصدقاء))، مُحاصر بحبّ الأقارب، مُجتاح...مُستباح. للوجاهة ضريبة وضعته دائماً في الواجهة.
عندما يشتاق إلى نفسه، يأتي إلى بيته الباريسي، يتمادى في عصيانه الاجتماعي. لا يردّ سوى على هاتف سكرتيرته. يحتاج كلّ شهر، إلى أن يسرق بضعة أيّام لممارسة المباهج التي سرقتها منه بيروت.
31
هنا يطالع الكتب التي لا وقت له لقرائتها. يستمع لفيفالدي، يبدأ نهاره بـ((الفصول الأربعة))، وينهيه بكليدرمان. يحبّ أن يختم مساءَه بمقطوعات من العزف على البيانو. بالذات Adeline Ballade Pour. بإمكانه الاستسلام لسماعها طوال المساء. لكنّه الليلة على موعد مع شريطها الذي عثر عليه سائقه في معهد العالم العربي. استعدّ لسماعه بطقوس الموسيقى الكلاسيكيّة، رغم درايته أنّه قد يُرضي فضوله لا ذوقه.
راح يحشو غليونه صبراً وتأهّباً أثناء إنصاته إلى ذلك التمهيد الموسيقي.
انطلق صوتها من درجة مواربة للشجن. لم يدرك وهي تغنّي أمبتهجاً كان أو حزيناً، فتلك الأغنية لم تهزّ شيئاً فيه. الطرب في لسان العرب ((خفّة تعتري المرء من سرور أو حزن)). مشاعره كانت خارج هذه الأحاسيس. لكن موسيقاها علقت بسمعه كأغنية إيطاليّة تردّدها دون أن تفهم كلماتها، مراهناً أنّها برغم ذلك تعنيك أو تتوجّه إليك. أليس غريباً إصراره على قرابة ما، تجمعه بأغانٍ لا يحبّها ولا توافق في الواقع ذوقه!
ما الذي يريده منها؟ هذه الفتاة التي ليست أجمل من غيرها، والتي لا تهزّه أغنياتها. لعلّه يريد حالة الشغف التي سكنته مذ رآها. صخب العواطف الذي يسبق امتلاكه لامرأة. دوخة الحبّ.. وذلك الدوار الذي يحتاج إليه لمواصلة اشتهاء الحياة. لذا، لن يحتسيها دفعة واحدة. سيجعل الطريق إليها طويلاً. لقد انتظر شهراً ليراها مجدّداً في برنامج تلفزيوني، شهراً ليُلقي إليها بالطعم، الذي لايمكن لسمكة صغيرة مثلها إلّا أن تزدرده.
***
32
عندما أطّلت في ذلك البرنامج، مع الضيوف الثلاثة الذين شاركوها الإحتفاء بالحبّ، بدت كأنّ اختارها ليحتفي بها.
شيء فيها تغيّر مد طلّتها الأخيرة قبل شهر. إنها تبدو أبهى. لعلّه ثوبها الأسود الذي كانت ترتديه مع عقد طويل بصفّين من اللؤلؤ، منحها إطلالة تتجاوز سقف ميزانيّتها.
بدا الجوّ على البلاتو احتفالياً: قلوب حمراء، وسائد حمراء، ورود حمراء، علب وهدايا بشرائط حمراء. هل أجمل من الأسود لوناً يعقد عليه الأحمر قرانه في عيد الحبّ!
فكرة البرنامج كانت جمع أسماء غنّت الحبّ أو كتبته، وهي التي درّسته لتلاميذها ضمن المقرّرات المدرسيّة في النصوص الأدبّية والشعريّة، كان يجب أن تشارك بهذه الصفة لا غير.
هي لم تسمع بعيد الحبّ إلا مذ أصبحت تقيم في الشام. في مروانة، كان الحبّ يُقيم في بلاد أخرى، لهذا ما اعتادت أن تعايده، أو تنتظر هداياه.
كان موجودًا في أغاني أبيها لا في بيته، مسموحاً به للغرباء.. لا لأهله.
في البيت، كان ثمّة ((محبّة)) أي حرفان زائدان على الحبّ.
وبرغم ذلك، هي لا تصدّق هذه القلوب الحمراء من الساتان المحشوّة قطناً، والتي تقول ((I love you))، ولا تثق بوفاء الدببة المتعانقة التي تقول بالإنكليزية ((أشتاقك))، أو ((أنا مجنون بك)). جميعها دليل على حبّ غدا كاذباً لفرط ثرثرته، مفقوداً لفرط وجوده.
عادت وراجعت نفسها. لكأنّها لا تغفر للعشّاق سعادتهم ولو كذباً. وأين المشكل إن هم قالوا ((أحبّك)) بلغة غير لغتهم. وأين الخطر في أن تتوحّد لغة العواطف، ويسير العشّاق خلف الألوية الحمراء للحبّ.
33
لا تريد أن يتحوّل الهدف من وجودها في البرنامج إلى إدانة عولمة المشاعر، عليها أن تكفّ عن أن تكون مدرّسة لغة عربيّة!
سألها مقدّمُ البرنامج بفرحة صحافي وقع على سؤال يربك ضيفه:
- هل يمكن لمن ليس في حياته حبّ أن يغنّي الحبّ؟
جاء جوابها هادئاً:
- وحده فاقد الحبّ جدير بأن يغنّيه.. الفنّ العظيم كالحبّ الكبير، يتغذّى من الحرمان.
بدت كما لو كانت تتكلّم بحياء عن الحبّ. هي تدري أنّ أهلها وتلاميذها ومصطفى وزوجته وكلّ مروانة والجزائر يتابعونها في هذه اللحظة، ولولا إحساسها بذلك لربّما قالت شيئاً آخر. لكّنها بدت صادقة في ما قالته على استحياء. الحياء نوع من أنواع الأناقة المفقودة. شيء من البهاء الغامض الذي ماعاد يُرى على وجوه الإناث.
وهي التي تنازل الإرهابيين بملء حنجرتها، عندما تتحدّث عن الحبّ تخفت طبقة صوتها حتّى درجة البوح، وحينذاك تصبح شهيّة، ويكتشف الآخرون وهم يستمعون إليها، تلك الحقيقة التي نسوها: بإمكان امرأة خجولة أن تكون مثيرة.
تدخل الشاعر معلّقاً على قولها:
-لا حب يتغذّى من الحرمان وحده، بل يتناوب الوصل والبعاد، كما في التنفّس. إنها حركة شهيق وزفير، يحتاج إليهما الحب لتفرغ وتمتلئ مجدّداً رئتاه. كلوح رخامي يحمله عمودان إن قرّبت أحدهما من الآخر كثيراً اختلّ التوازن، وإن باعدت بينهما كثيراً هوى اللوح.. إنّه فنّ المسافة!
34
هبّ الملحّن الكبير محتجاً:
-الحبّ تعتير.. لا شهيق ولا زفير. جيب لي مَرا بتحبّك لنفسك مو لَجيبك .. وتُنطرك مو تُنطر لَتبرم ظهرك ،ع أيامنا الحبّ عمليّة نصف عاطفي .. مَرا بتتجمّل لك ..تتغّج ..تتبرجّ ..لَتوَقّعك ،وبس تجنّ وتتزوّجها ماتعود تعرفها. مافي حبّ ،في صفقة حبّ ..يا زلمِه بشرفك تعرف مَرا بتِقبَل تتجوّز واحد معتّر لأنّا بتحبّو ؟!
بهت الجميع وموسيقارالحبّ يهاجم الحبّ في عيده ويتبرّأ منه .
كان قلباً مجروحاً ،ورجلاً مخدوعاً ،حضر ليُصفّي حساباته مع الحبّ .إنّه ينتمي الى العناصر غير المنضبطين في حزب العشّاق ،يُطلق النار كيفما اتّفق على النساء .اثناء دفاعه عن الحب ،لا ينتبه انه أفرغ رشّاشه فيه ..وأرداه .
توجّه مقدّم البرنامج إليها سائلاً:
-هل تعتقدين أنّ وسائل الآتّصال التكنولوجيّة الحديثة خدمت الحبّ ؟
- ربّما خدمت المحبّين ،لكنّها لم تخدم الحبّ .كان الحبّ أفضل حالاً يوم كان الحمام ساعي بريد يحمل رسائل العشّاق .كم من الأشواق اغتالها الجوّال وهو يقرّب المسافات ،نسيَ الناس تلك اللهفة التي كان العشّاق ينتظرون بها ساعي البريد ،وأيّ حدث جلل ان يخطّ المرء((أحبّك ))بيده. أيّ سعادة وأيّ مجازفة أن يحتفظ المرء برسالة حبّ الى آخر العمر.اليوم ،((أحبّك)) قابلة للمحو بكسبة زرّ.هي لا تعيش إلّا دقيقة ..ولا تكلّفك إلّا فلساً!
35
لا رغبة لها في أن تحكي كم يُمكن لكلمة ((أحبّك)) أن تكون أحياناً مكلفة،عندما تُكتب على ورقة .كذلك التلميذ الذي نقلت الصحافة الجزائريّة قبل سنتين قصّته .كان المسكين قد اقترف جرم كتابة ((أحبّك)) على ورقة ،ووضعها على طاولة زميلة له في الصفّ.وما إن وقع الإستاذ على الورقة ،حتّى ألغي الدرس وأعلن حالة استنفار بحثاً عن صاحب الرسالة .أمام إنكار الجميع أن يكونوا من كتبوها ،راح يودّي دور شرلوك هولمز مدقّقاً في أربعين نسخة لكلمة ((أحبّك))، طلب من التلاميذ كتابتها وإحضارها الى مكتبه لمقارنتها.
انتهى التدقيق المجهري بعثوره على الجاني ،الذي أصيب بحالة فزع بعد توبيخه وضربه في حضرة أترابه ،أمّا المدير فقد رفع سقف العقاب حدّ استدعاء أهله لإخبارهم أنّ ابنهم مطرود من المدرسة لسوء أخلاقه!
أثارت الحادثة يومذاك جدلاً لدى زملائها.جلّهم وافق الأستاذ في إدارته قضيّة ((الجرم)) الذي ارتكبه تلميذ لم يبلغ بعد سنّ الرشد العاطفي .أرادوه في الثانية عشرة من العمر ،عبرة لباقي التلاميذ منعاً لعدوى الانفلات الأخلاقي . وحده مصطفى كان من رأيها .
قال بأسى :
-سيكون صعباً على هذا الفتى أو أترابه أن يكتبوا بعد اليوم هذه الكلمة ..أو أن يقولوها في حياتهم لأحد !
بعد أيّام ،حين نقلت الصحافة أخبارمذبحة بن طلحة التي نحر فيها الإرهابيّون 500 قروي ،علق مصطفى بحزن :
36
- من صفّ ذلك الأستاذ سيتخرّج فوج القتلة القادمين .إنّ اليد التي تُعاقَب لأنّها كتبت كلمة أحبّك إنّما هي يد أُعِدّت لإطلاق الرصاص .
لاحقاً ،قال لها مصطفى بجدّيّة كاذبة :
- إنّي أفكّر في الهجرة إلى أمريكا .
سألته مدهشة:
أميركا ..لماذا أميركا ؟
-لأنّه ،في استطلاع أخير ،جاء أنّ الأمريكي هو أكبر مستهلك لكلمة ((أحّبك)).تصوّري أنّه يلفظها بمعدّل ثلاث مرّات في اليوم ،كأنه يتناولها مع وجباته الثلاث.أريد أن أهاجر كي أسمعها ولو مرّة في حياتي .هنا قد يموت المرء ولا يسمعها حتّى أمّه برغم أنّ كلّ شيء يشي بحبّها له.لكنّها عندما تنطق تقول عكس ذلك !
واصل بنبرة مازحة :
- بإمكانك أن تجعليني أعدل عن الهجرة ،يكفي أن تقولي إنّك تحّبينني! ضحكت لابتزازه العاطفي ،لكنّها طبعاً لم تقلها.
لو قالتها ،لربّما كانت الآن في معسكرات الاعتقال العاطفي. وبدل أن تُرزق ألبوماً، لكانت هناك تخدم أمّه وتربّي أولاده !
هل أحبّته حقاً؟
هي نفسها لا تدري .معظم الذين يعتقدون أنّهم يعيشون قصّة حبّ ،هم في الواقع يعيشون وهم الحب .
37
ترك لها مقدّم البرنامج قول كلمة الختام ،بعد أن شغلتها أفكارها عن المشاركة في نقاش احتّد بين أنصار عيد الحبّ ومهاجميه .قالت:
- يوم كان العشّاق يموتون عشقاً، ماكان للحبّ من عيد. اليوم أَوجد التجّار عيداً لتسويق الأوهام العاطفيّة، غير معنيّين بأنّهم بابتداع عيد للحبّ يُذكّرون غير العشاق بخساراتهم ،ويقاصصونهم بفرح الآخرين .إنّه في الواقع أكثر الأعياد تجنّياً!
علّق مقدّم البرنامج بدعابة تستدرجها لاعتراف ما:
- لكأنه كلام امرأة لن تحتفل اليوم بالعيد .
ردّت بالمزاح نفسه:
- الأعياد دوّارة ..عيد لك وعيد عليك . إنّ الذين يحتفلون اليوم بالحبّ ،قد يأتي العيد التالي وقد افترقوا .والذين يبكون اليوم لوعة وحدتهم، قد يكونون أطفال الحبّ المدلّلين في الأعياد المقبلة .علينا في الحالتين أن نستعدّ للاحتمال الآخر!
انتهى البرنامج ،ووقف الضيوف يواصلون نقاشاتهم محمّلين بما تلقّوا من باقات ورد .كلام الحبّ لا ينتهي . لكنّها كانت على عجل ،تهمُ بمغادرة الاستديو هرباً من أسئلة أيقظت مواجعها ،حين أمدّها مقدّم البرنامج بباقة ورد قال إنّ مُرسلها طلب ألّا تُقدّم إليها على الهواء .أمسكت بها مذهولة ،فلقد استوقفت تلك الباقة نظرها بغرابة تنسيقها ،حين رأتها في زاوية الهدايا ،من الواضح أنّ صاحبها أرادها فريدة وباهرة برفضٍ مُعلن لطفرة اللّون الأحمر في عيد الحبّ .لا تضمّ سوى أزهار توليب في غرابة لون مُشعّ بأمواج ضوئيّة تتراوح بين االبنفسجيّ والأسود .مصطفّة بحيث تبدو منتصبة كالعساكر،على القدر نفسه من التفتّح الخجول الأوّل، متدرّجة في ثلاثة صفوف، يلفّ خصرها شريط عريض من الساتان الأحمر الفاخر.
38
فتحت بلهفة الفضول الظرف الصغير المُرفق بها، لم يكن على البطاقة سوى ثلاث كلمات ((الأسود يليق بك)). جمدت مكانها مذهولةً. كان في الجوّ شيء شبيه بإعلان حب، كإشعار باقتراب زوبعة عشقية. شيء لا اسم له كصاحب البطاقة، لكنه يُحدث فيها دواراً جميلاً لم تعهده. لاتدري ما الذي ما الذي يحدث لها. موسقى شبيهة بفالس تراقص روحها، انطلقت من مكان ما داخلها، وراحت تدور بها وتٌفقدها القدرة على التفكير المنطقيّ.
نزلت من السيّارة وكأنّها راقصة باليه تنتعل خفّين من الساتان، تمشي على رؤوس الأحلام التي أصبحت لها أقدام.
***
لو أنّ صحافياً أعاد عليها الآن الأسئلة نفسها، لقالت شيئاً آخر مخالفاً تماماً لما قالته قبل ساعة. ثلاث كلمات على بطاقة لاتحمل توقيعاً أوقعت بقناعاتها العاطفيّة.
اللحظة، هي تفضّل وهم الحبّ على اللاحبّ. ولا بأس أن تنضمّ إلى كتائب العشّاق المغفّلين الذين فتك بهم هذا الوهم. تريد أن تتناول من جرعات هذا الداء مايقتلها حقاً.. أو يحيُيها.
في الفندق، وضعت باقة الورد على الطاولة المستديرة، بحيث تراها أينما كانت. حاولت أن تخفّف من تسارع أحلامها، ورهان قلبها على بطاقة لا تحمل سوى ثلاث كلمات: ((الأسود يليق بكِ)).
39
ماتشعر به لا علاقة له بسلّة الورد. مهما تعّددت الكلمات والألوان، كانت جاهزة للتعثّر بأوّل حبّ تضعه الحياة اليوم تحديداً في طريقها. لكأنّ الأمر عدوى لا نجاة منها.
تأمّلت بعرفان تلك الورود الغريبة اللّون. لولاها لاغتالها اللّون الأحمر، كما تجنّى اليوم على الملايين ممّن لا حبّ في حياتهم.
40
تراك استمعت إلى حكايات الناي وأنين اغترابه، إنه يشكو ألم الفراق، (يقول):
((إنني مذ قُطعت من منبت الغاب لم ينطفئ بي هذا النواح، لذا ترى الناس رجالاً ونساءً يبكون لبكائي فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله، يظل يبحث عن زمان وصله إن صوت الناي نار لا هواء، فلا كان من لم تضطرم في قلبه هذه النار)).
جلال الدين الرومي
43
كان يحبّ الجاذبيّة الآسرة للبدايات، شرارة النظرة الأولى، شهقة الانخطاف الأوّل.
كان يحبّ الوقوع في الحبّ.
ما كان مولعاً بصيد النساء، بل برشف رحيق الحياة، وبذلك الفضول الجارف الذي يسبق الحبّ.
حدث أكثر من مرّة بعد ذلك، أن عاود مشاهدة تلك المقابلة، التي يحتفظ بها في مكتبه، لعلّه يفكّ شيفرة تلك الفتاة، أو سّر تعّلقه بها.
ليس جمالها ما يأسره، هي ليست جميلة حد فقدان رجل مثله صوابه، ولاهي أنيقة أناقة يمكن أن تنازل بها النساء من حوله. لعلّها ما كانت لتستوقف نظره لو صادفها. لكن كلماتها صادفت أذنه، وأوقعته في فتنة أنوثة ما خبر من قبل بهاء عنفوانها.
أفرغ غليونه وراح يحشوه بتأنً، كما يفعل عادة عندما تأخذه الأفكار.
هو لايّفكر أثناء التدخين، بل أثناء إعداد غليونه وحشوه. هكذا يعدّ لمشاريعه ولصفقاته. وهكذا يدير معاركه قبل أن يخوضها، لاعتقاده أنّ الاستعداد للفوز أولى مُتع الفائز.
44
أن تنتظر امرأة بالذات، خارج الزمن وخارج الحسابات، أن تنتظرها كما لو أنّه لا امرأة سواها على الأرض، ياللجهاد.. يا للنصر العظيم حين تفوز بها.
ثلاثة أشهر وهو يتقّدم نحوها بتأنٍّ كما على رقعة الشطرنج. تصلها باقات وروده إلى أيّ مسرح تغنّي عليه، وأيّ برنامج تطلّ فيه. كقنّاص يعرف كلّ شيء عن طريدته، كان مُلماً بأخبارها، بينما لا تعرف هي شيئاً عنه.
يعنيه فضولها، ترقّبها، حيرتها. يودّ أن يدخل حياتها علامة استفهام جميلة، تغدو مع الوقت علامة تعجّب.. فعلامة إعجاب! هكذا تُكتَب قصص الحبّ الكبيرة. كلّ مايأتي على عجل يمضي سريعاً، وكل ما نكتسبه بسرعة نخسره بسهولة. وهو بلغ من الحكمة عمراً، أصبحت فيه متعة الطريق تفوق متعة الوصول، وانتظار الأشياء أكثر شهوة من زهو امتلاكها.
كتب لها على البطاقة الثانية ((أملك كلّ الوقت)).
وعلى الثالثة ((احتفي بورود الانتظار)).
لعلّها أدركت أنّ عليها أن تنتظر أكثر، قبل أن تعرف من يقف وراء تلك الباقة نفسها، بكلمات مختلفة كلّ مرّة. كلمات مواربة البوح، تحفظ له مسافة أن يظلّ المشتهى.
الحبّ هو ذكاء المسافة. ألّا تقترب كثيراً فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلاً فتُنسَى. ألّا تضع حطبك دفعة واحدة في موقد من تُحبّ. أن تُبقيه مشتعلاً بتحريكك الحطب ليس أكثر، دون أن يلمح الآخر
45
يدك المحّركة لمشاعره ومسار قدره. أوه.. كم يُتقن لعبة نقل النار بين الحطب، وإنقاد الشعلة في اللحظة الأخيرة قبل أن ينطفئ الجمر بقليل.
ثلاث رسائل كافية لإشعال فتيلها. سيترك لها رقم هاتفه مع الباقة التالية, لكنّه حتماً لن يترك اسمه. سيطيل لعبة الغموض ما استطاع ليُشعل شغفها بما لاتعرف عنه. الغموض مصمّم أزياء انتقائيّ، لا يضع توقيعه إلّا على تفاصيل الكبار.
لم تتجاوز كلماته لها ثلاثاً في كل بطاقة. كلامه أغلى من أن يملأ بطاقات تُرسل في المناسبات، وهي لا تعرف هذا بعد، ولا أنّ اللغة هي بعض ما أوقعه في شراكها. معها يتوقّع جولات لغويّة على علوّ شاهق. هذه المتعة بالذات هي التي يفتقدها مع سواها، يريد شريكاً لجولة كرة طاولة، تتطاير فيها الجمل فيهبّ لالتقاطها والردّ عليها. النساء من حوله لا جولات لهنّ خارج السرير.
غادر البيت مشياً نحو غابة بولونيا. اعتاد أن يمشي طويلاً في نهاية اليوم أثناء مواصلة سيره في أفكاره، تارة نحو الذكريات.. وأخرى صوب المستقبل.
هو دائماً على أهبة مشروع، أو خارج لتوّه من ذكرى. يمارس رياضة المشي السريع في زمن مفتوح بين طفولته العاديّة في بيروت ونجاحاته الخارقة في كبرى عواصم العالم.
إنجازه الأكبر ماكان في بلوغه تلك المكاسب، بل في الطريق التي سلكها لبلوغها.
كان مولعاً بالأقدار الكبيرة. تبهره السير الذاتيّة لرجالات صنعوا أقدارهم. وكان صانعاً ماهراً للأحلام الخرافيّة. يكفي أن يحلم لتصادق الحياة على أحلامه. قد يبدو في لحظات نادرة متواضعاً، لكن أحلامه
46
لا تعرف التواضع. يمشي.. وأثناء ذلك يحلم. يتأمّل الأشجار المتعانقة على طريقه بأشكالها المختلفة، والبطّ يتزلّج بأناقة على الضفاف الهادئة لبحيرة بولونيا.
كثيراً ماتمنّى لو كان شاعراً أو كاتباً ليصف انبهاره بهدا المكان الذي يتردد إليه منذ أكثر من عشر سنين. لايدري هل تنقصه الموهبة أو الشجاعة ليصبح كاتباً، فهو ليس خرّيج الجامعات بل خرّيج الحياة. لذا لم يأخذ الشهادات يوماً على محمل الجدّ.
ماعاد الأمر يزعجه. حُلّت عقدته مذ تفوّق بحكمته ودكائه على طاقم المستشارين والمساعدين العاملين في شركاته. حدث أكثر من مرة أن أنقذ أعماله من الإفلاس بمهاراته لا بشهاداتهم.
مايحسد البعض عليه حقاً هو الثقافة. لذا، كان ينهل منها بشغف وفضول معرفيّ، ذاهباً مع العمر نحو أرقاها وأعمقها، بعد ما لم يعد يعنيه إبهار أحد.. بل إمتاع نفسه.
انقضت ثلاثة أسابيع قبل أن تأتي أوّل مناسبة. حفل علم أنها ستشارك فيه مع مجموعة من المطربين في سورية. هذه المرّة سيلقي لموقدها بما سيشعلها من حطب لأيام، لكنه لن يستعمل سوى عود ثقاب واحد.
كتب على بطاقة أرقام هاتفه فحسب، ووضعها في الظرف الصغير المرفق بالباقة نفسها التي اعتاد أن يرسلها إليها. طلب إرسال الباقة مع سائق إلى الشام. كان عليه أن يقصد بنفسه بائع الورود، وأن يتابع كل التفاصيل. لو كان في باريس لكلّف سكرتيرته الفرنسيّة بذلك، في بيروت لا يمكنه أن يأتمن أحداً على سرّ. هذه مدينة كلّ واحد فيها يدير وكالة أنباء.
47
ثلاث ساعات وتصلها البطاقة، تماماً بتوقيت ختام الحفل. إنها الساعات الأكثر توتراً وجمالاً في أي قصة حب، التي تسبق الإعلان ببدء حالة الجنون العشقي. هذه المرّة رفع سقف فضولها العاطفي بثمانية أرقام ليست مُرفقة باسم. كان لايتوقف عن استراق النظر إلى ساعته. ابتداءً من الساعة العاشرة، يمكن للهاتف في أي لحظة أن يرن.. وتكون هي على الخط. ففي كل امرأة تنام قطة يقتلها الفضول.
أطال البقاء في المكتب، حتى لا يفاجئه الهاتف وهو مع زوجته. ثمّ، عند منتصف الليل قرّر العودة إلى البيت، لكنه وضع هاتفه على الصامت كي يأخد علماً باتّصالها. تفقّد هاتفه قبل الخلود إلى النوم، دون جدوى. توقّع أن يشهق قلبها حين ترى رقمه، فتسارع إلى طلبه. لكنها لم تفعل، ولم يجد عذراً لعدم اتّصالها، فقد تأكّد من وصول السائق.
شعر أنّها هزمته حتّى من قبل بدء الجولة. كان نومه مضطرباً، نام عارياً من صوتها.
***
إنّها الحياة تتحيّن فرص إدهاشك.
لكأنّ هذا الرجل قرينها، أيكون جنّياً كي يعرف عنوان كلّ مكان تظهر فيه.. أو لعلّه مجنون؟ لكنّ لغته أرقى من أن تشي بذلك.
أحاسيس جارفة ومتناقضة انتابتها، وهي ترى رقمه المكتوب، دون أيّ كلمة مرفقة به.
تردّدت في طلبه مساءً. لايليق بفتاة أن تتّصل ليلاً برجل غريب. لكنّها كانت على عجل أن يأتي الصباح. قلبها يرى في أرقام هاتفه
48
إشارة مشفّرة للحبّ يستعجل فكّها. قلبها يخفق، قلبها أحمق يقول ((قومي واطلبيه))، وعقلها أحمق آخر يردّد ((عيب.. انتظرى غداً !)).
قاومت الأرق، ثم صباحاً، قاومت لهفتها وفضولها، في انتظار الساعة التاسعة، الوقت الذي بدا لها مناسباً للاتّصال.
كان رقماً من لبنان، ولا فرق في التوقيت إذاً. طلبته دون أن تدري كم بإمكان رقم هاتفي أن يعبث بأقدارنا.
ارتجف صوتها كما يوم جرّبته لأوّل مرّة قبل أن تغنّي:
-ألو..
ردّ صوت رجل على الطرف الآخر:
-أهلاً.
ساد بينهما للحظات صمت البدايات. قال فاتحاً باب الكلام:
-سعيد بالتحدّث إليك..
وجد نفسه يواصل:
-كنت أستعجل هذه اللحظة.
ردّت بنبرة لاتخلو من الدعابة في إشارة إلى بطاقته السابقة:
-ظننتك تملك كلّ الوقت!
- أن أملك الوقت لايعني أني أملك الصبر..
علّقت بالدعابة نفسها:
- أمّا أنا فطوّعتني الحياة.. لا أكثر صبراً من الأسود!
أُسقط بيده. ما حسب أنّ الجولة معها ستبدأ على هذا العلوّ الشاهق. أمّا هي فما ظنت أنها ستخفي ارتباكها بالمزاح. ليس هذا ما تمنّت أن تقوله.
قالت مستدركة:
-شكراً على الورود... أسعدتني التفاتتك كثيراً.
49
أجاب:
- مذ أوّل برنامج شاهدتك فيه وأنا أودّ أن أبدي لك إعجابي.
سألته:
- أيّ برنامج تعني؟ تبدو متابعاً جيّداً للبرامج التلفزيونيّة!
في ظروف أخرى كان سيكون له ردّ فعل آخر، لكنّه وجد لها عذراً. هي لا تعرف من يكون، ثمّ لقد وصلتها منه ورود في أكثر من ظهور تلفزيوني، وربّما ظنّت أن لاشغل له سوى الجلوس أمام شاشة التلفزيون.
ردّ:
- كنت أقصد المقابلة التي أجريتها في نهاية ديسمبر.. أحببت حديثك.
علّقت ممازحة:
ظننتك أحببت حدادي حين كتبت لي ((الأسود يليق بك)).
- ربّما كان عليّ أن أقول إنك تليقين به.. الأسود ياسيدتي يختار سادته.
لم تجد ماتردّ به. هكذا هم المشارقة، لا يمكن أحداً أن يجاريهم في انتقاء كلماتهم عند الحديث مع امرأة. ما كان من اللائق أن تسأله عن جنسيته. طرحت سؤالها بصيغة أخرى:
- هل تقيم في بيروت؟
- نعم
- أنت محظوظ .. أحبّ بيروت كثيراً.
ردّ:
- بيروت تحبّك.. لقد خصّص لك إعلامها استقبالاً جميلاً.
- صحيح.. أنا مَدينة لها بانطلاقتي.
50
علّق:
- لعلكّ يوماً تكونين مَدينة لها بلقائي.
تركت كلماته بينهما شيئاً من الصمت. شعر بأنّ عليه إلّا يطيل المكالمة الأولى. قال منهياً الاتّصال:
- رقمي معك.. يُسعدني سماعك.
باغتها، لم يترك لها فرصة أن تضيف شيئاً. غادرها في عّز فضولها. أغلق الجولة على جملة ((يسعدني سماعك)).
احتفظ لنفسه بما تمنّى لو قاله لها ((أتعبتني قبل أن أسمع بك.. وسأتعب لأننّي لا أريد أن أسمع سواكِ)).
بقي على جوع إليها. لكنّه أبقاها ظمأى، في هذه المرحلة يحتاج الحبّ إلى أن يقتات من تعطّشها لمعرفة المزيد عنها، وإلاّ انطفأ وهج الشعلة بينهما، فلا بأس أن ينتظر. خبرته تقول إنها ستعاود الاتصال به في حدود يومين. هذا أقصى حد عرفه للصبر النسائي.. إلا إذا زايدت عليه مكابرة، وصدق قولها ألّا أطول صبراً من الأسود!
بعد انقضاء ثلاثة أيّام دون أن يأتيه اتّصال منها، بدأ يشكّ في نظريّاته. في جميع الحالات، هو لن يطلبها، وخاصّة أنّها اتصلت به من رقم أرضي قد لايكون رقمها الخاصّ.
على الرغم من انشغاله الدائم، ما كان يفارقه هاجس انتظار مكالمتها. في اليوم الخامس، بدأ يساوره من أن تتوقّف قصّته معها هنا. إنّها فتاة عنيدة وعصّية، قد لا ترى مبرّراً لمعاودة الاتّصال به، وعندئذ، لن يكون من اللائق أن يواصل إرسال الورود إليها. يخشى أن تكون اعتبرته مجّرد معجب لايستحق أكثر من مكالمة واحدة.
51
بدأ يخطط لمواجهة الموقف الجديد عندما فاجأه هاتفها في صباح اليوم السادس.
-أهلاً، صباح الخير.
بمكر رجولة طاعنة في ترويض النساء، لم يُبد لها سعادته العارمة بسماعها، ولا سألها لماذا تأخّرت إلى هذا اليوم. من المفترض أنّه ((يملك كلّ الوقت)). هذه المّرة استعمل معها اللامبالاة، إنّه سلاح يفتك دائماً بغرور المرأة، محولاً نحوها أسئلة الشكّ. تبادل معها كلمات مجاملة، سألها عن أخبارها، لكنّه لم يمنحها الوقت لتسأله عن اسمه. أعطاها الإحساس بأنّه في اجتماع. ثم ودّعها قائلاً ((أسعدني سماعك)). تعبير ملتبس يُقال عن حبّ.. كما عن محبّة.
استعاد عافيته وهو يضع السمّاعة.
لقد خطا خطوة إلى الوراء في هذه المكالمة، كما ليقاصصها دون أن تدري لماذا، واثقاً أنّها الخطوة التي ستقفز بقصّتهما خطوات إلى الأمام.. إنه يراقصها التانغو!
طالما آمن بأنّ الانوثة إيقاع.
هذه المرأة تراقص روحه. كلامها مزيج من الإغراء والعنف والأنفة. إنّها سيّدة التانغو. حتّى الأسود الذي ترتديه خُلق لهذه الرقصة: رقصة الثأر.
ما كان لهذه التفاصيل أن تفوت رجلاً اغترب نصف قرن في أميركا اللاتينيّة ،ومازال في سره يُطلق على كلّ امرأة اسم رقصة.. أو مقطوعة موسيقيّة.
***
52
كلّ الفرسان من حولها يمتطون جياداً خشبيّة. هذا ما اكتشفته متأخّرة. لكن قلبها يقول إنّ هذا الرجل لايُشبههم. ربما لم يكن أفضل منهم، هي لاتدري بعد. ماتدريه أنّه يختلف عنهم. إّنه لا يشبه أحداً. يختار وروداً غريبة اللون، لاتشبه وروداً رأتها من قبل، مرفقة بها كلمات ماقالها أحد قبله.
غموضه، إيجازه، طريقته المبتكرة في مطاردتها، في مقاربتها، ماعهدتها في رجل.
برغم ذلك، هي تحافظ على مسافة الأمان. على لهفتها إليه تبطئ السير نحوه، فما أسرعت الخطى نحو رجل إّلا خانها رهانها.
حدث أن حاولت أن تُطبّق إحدى الطرق الحديثة في التعليم، التي تنصح بها مدارس علم النفس المعاصر، فتمنح التلاميذ منذ بدء العام الدراسي نقاطاً عالية، كي تحفزهم على الحفاظ على تلك العلامة، بدل أن تعطيهم العلامة التي لا يستحقّونها، فتفقد حماستهم للتحسّن.
أي حماقة تضعي أعلى علامة لرجل قبل امتحانه، مراهنةً على أنّك، بتجميل عيوبه، ستكسبين رهان تحويله إلى فارس زمانه.
لن تقع في هذا الخطأ مجّدداً. على هذا الرجل أن يشقى لينال علاماته.
كانت تفكر بمنطق المعلّمة، وكان القدر يقع على قفاه من الضحك، وهو يسترق السمع إليها. هي لاتدري بعد، أنّ هذا الرجل جاء ليعيدها إلى مقاعد الدراسة!
***
53
بعد مكالمتين، فازت بمعرفة اسمه الصغير، لكنّها اعتبرت فوزها كبيراً. قبله، كان هاتفها جهازاً، بمجيئه أصبح رجلاً، وكان رقماً فغدا اسماً. اسم هاتفها ((طلال)). اسم سرّي، وحدها تعرف به.
طلال اسم رجل يقيم في سماعتها، لكن كلماته تنتشر في حياتها مع الهواء.
رجل لاتعرفه إلاّ قليلاً.. ويعرفها كثيراً. أدخلها في حالة دوار عشقيّ يصعب الخروج منها. أسكنها في مساحة وسطيّة بين باقتين وهاتفين، على حافة حرائق الانتظار.
مكالمة بعد أخرى، كان يراها تزداد تعلّقاً بما ترك لها من إضاءات وسط أسرار عتمته، وها هي ذي تترقّب صوته، تلومه على انقطاعه، تحتفي بعودته، تلاحق هواتفه مداً وجزراً.
أصبح لها عليه حقّ الحبّ، وله واجب العاشق في الاطمئنان عليها، والاطّلاع على برنامجها اليومّي، من دون أن يبادر أحدهما بقول كلمة حبّ للآخر.
استسلم لعادة سماعها يومياً. كان يهاتفها بين المطارات والاجتماعات، أو بين المكتب والبيت، أثناء وجوده في السيارة.
كانت تتفتّح كزنبقة مائيّة ظهرت فجأة في بركة المياه الآسنة لحياته. وحين عرضت عليه أن يلتقيا، قرّر أن يضعها أمام امتحان شيطاني قبل أن يسلّم إليها قلبه.
ذلك أنّه كان دائم الشكّ في كلّ من يدخل حياته المهنية أو العاطفيّة. حذر بحكم ثرائه، لاعتقاده أنّ أصحاب جيبه، يفوقون عدد أصدقائه، وأنّ السحر الساطع للمال، كثيراً ما غّطى على سحره الشخصي.
54
لعلّها فرصة، أن يختبر في امرأة لاتعرفه، حضوره العاري من أبّهة الجاه، فبريق الثراء حّوله إلى بؤرة إشعاع يجذب ضوؤها الناس إليه، فيبدو حيث حلّ جميلاً بما يملك.. لا بما هو.
حين أخبرته أنّها ستقيم حفلاً في باريس، عرض عليها أن يلتقيا هناك، متذرّعاً بكونها مشهورة في بيروت، ولن يكون سهلاً ان يلتقيا في مدينة عربية، مدّعياً أنّ سفرها يوافق وجوده في أوروبا.
وجدت في عرضه حرصاً منه على صيتها، وأكبرت فيه ذلك. بدأت تحلم بلحظة لقائها به، فهي لم تزر باريس إلا مرّة واحدة مع والدها وأخيها قبل سنوات، يوم كان أحد أعمامها يُقيم هناك. ربما أشفق الله عليها من عودتها إلى باريس لتواجه وحدها وجع ذكراهما، فواساها بأن بعث لها بهذا الحب.
لم تلتق من قبل مع رجل في مدينة تتنفّس الحرِّيّة، ولا كانت يوماً حرّة. لعلها فرصتها لكسر قيودها، واكتشاف العالم. عادت وصحّحت نفسها: اكتشاف العالم لا الانكشاف به، فكلّ ماتتمنّاه هو جلسة جميلة مع هذا الرجل، الذي لوّن حياتها بالورود، والكلمات التي لاتدري من أين يقطفها لها، كلّ مرّة.
قضت يوماً كاملاً تجوب المحالّ مع نجلاء، بحثاً عن ثياب أنيقة، تليق بإقامتها في باريس وبذلك اللقاء. قالت نجلاء متذمّرة في آخر المطاف:
- الناس يقصدون باريس للتسوّق وأنت تتسوقين قبل الذهاب إلى هناك.. هلكتني يا إختي مافي شي عاجبك!
أجابت مازحة:
- ما أدراك.. ربما لن يترك لي الحب في باريس من وقت !
55
لا تريد إخبارها أنها ستتقاضى مبلغاً رمزياً، نظراً إلى كون الجالية الجزائريّة هي التي تنظّم الحفل. في الواقع، دون أن تعي ذلك، تأبى أن تنفق على شراء ثوب، مبلغاً يتجاوز ما كانت تتقاضاه في شهر، يوم كانت مدرّسة. مازال مبلغ 170 دولاراً يمثّل بالنسبة إليها حاجزاً نفسياً عليها أن تتخطّاه.
ماكان لها من شاغل سوى حقائب الحلم، وحين غدت أحلامها جاهزة للإقلاع، وجاء وقت التفاصيل الصغيرة، هاتفها سائلاً:
- أيّ ساعة تصل طائرتك؟
قالت:
- الساعة السادسة بتوقيت باريس.
-على أي مطار؟
-مطار شارل ديغول.
-حسناً.. ثمّة رحلات من لندن كلّ ساعة تقريباً. سأغادر لندن بحين أصل قبلك وأنتظرك هناك عند مخرج الركّاب القادمين.
واصل بعد شيء من الصمت:
-أتمنّى أن تتعرّفي إليّ وسط حشود المسافرين.
ردّت:
- في جميع الحالات، لن يضيّع أحدنا الآخر، فأنت تعرفني أليس كذلك؟ واصلت ممازحة:
- أو احمل باقة الورد تلك كي أستدلّ إليك!
ردّ بنبرة جادة:
- أن لم يدلّك قلبك عليَ فلن تريني أبداً.. وهذه القصّة لا تستحقّ عندئد أن تُعاش!
56
فاجأها بمنطق التحدّي العاطفي الظالم لامرأة لم تره من قبل، ولا تعرف في النهاية شيئاً عنه.
ماتوقّعت إلى أيّ حدّ كان جاداً. قرّرت أن ترفع التحدي. قالت وهي تُنهي المكالمة ضاحكة:
-فليكن.. موعدنا في مطار شارل ديغول!
لم تكن تدري أيّ فخ ينصب لها. فلقد أوهمها أنه يحدّثها من لندن. كيف لها أن تتّوقع وهو يطلبها من رقم فرنسيّ، أنّه في الواقع لم يغادر وأنّه يحدّثها من.. بيروت!
هو يعرف الآن عن تفاصيل رحلتها ما يكفي ليأخد الطائرة نفسها، ويسافر معها في مقصورة الدرجة الأولى. فهي التي أخبرته سابقاً أنّها ستسافر من بيروت، لعدم وجود رحلات في ذلك التاريخ من الشام، وأنّه لولا سفرها على الدرجة الأولى لما وجدت مكاناً في تلك الطائرة، معلّقة:
- معقول؟ ثلاث طائرات يومياً إلى باريس ولا تضمن وجود مكان فيها!
رّد:
- طبعاً. إنه موسم الأعياد.
***
أقسى الذكريات وأطرفها، تلك التي عاشها يومذاك وهو جالس لمّدة أربع ساعات على بعد خطوات من انشغالها عنه.. بالرجل الذي كانت تتهّيأ للقائه!
57
كانت على قرب مقعدين منه، لكن أبعد من يوم شاهدها على شاشة التلفزيون. إنها أبهى من الشاشة لكنّها ليست طويلة كما كانت تبدو، وهذه أوّل مرّة يراها في معطف أسود. معطف أنيق دون بهرجة، بحزام مربوط على جنب، يزينه شعرها المنسدل على كتفيها. ناولت المضيفة معطفها، فبدا له جسدها لأوّل مرّة عن قرب. هو الآن على مرمى يده، وملء نظره. كان يمكن أن يقف ويسلم عليها، أن يرفع خصلة الشعر عن جبينها ويقول ((مرحباً هالة.. هذا أنا)). غير أنّه أحبّ دور الرجل الذي لاتراه.. ولايرى سواها.
تأمّلها وهي تطالع الصحف، وهي لا تأكل إلّا قليلاً مما قُدّم لها من مأكولات. كأنّها وُلدت أميرة. لا أشهى من امرأة تجلس في الدرجة الأولى، وتترفع عن الانهماك في الأكل. الناس يفعلون ذلك عادة لقتل الوقت، ولإبعاد التفكير وهم في الجو في احتمال الموت، لذلك تتنافس شركات الطيران لفتح شهيتنا على كل المباهج، كي ننسى أننا مجرد ريشة ف الهواء، إلاّ إذا كانت المباهج التي تنتظرنا عند الوصول أشهى مايُعرض علينا، عنذئذ فقط نزهد في كل شيء بانتظار لحظة الهبوط. تماماً كما يحدث لها الآن.
إنه استخفاف المكان بالزمان. هي تستجعل الوصول بعد أربع ساعات إلى رجل يجلس بمحاذاتها ولا تراه!
أضحكه فشلها في معرفة طريقة استعمال سمّاعات الموسيقى، أو طريقة تغيير الشاشة المقابلة لها، والتي كانت مثبتّة على بثّ مسار الطائرة والوقت الباقي للوصول. من الواضح أنّها لم تسافر كثيراً.
كان بإمكانه، تمادياً في عبثيّة الموقف، أن يتطوّع لمساعدتها. لكنّه قرّر ألّا يفعل حتّى لا يفسد للمكان خديعته.
58
قبل الوصول بقليل، وقفت ((النجمة)) وأخذت من حقيبتها محفظة صغيرة وقصدت الحمّام. حتماً ذهبت لتتفقّد زينتها، فقد عادت بإشراقة واضحة، جدّدت حمرتها وسّرحت شعرها على جنب.
ألقت وميض ابتساماتها على الركّاب، كتلك التي يرمي بها ((النجوم)) على العامة من باب المجاملة. لم يلتقط الابتسامة، تركها تسقط أرضاً. مات فرحه وهو يراها تستعجل النزول للقاء رجل سواه.
عندما حطّت الطائرة، تركها تسبقه إلى مغادرتها. وجد نفسه خلفها ببضعة ركاب. لكنه أنهى إجراءاته قبلها لحيازته جواز سفر أجنبياً وسفره دون أمتعة عدا حقيبة يد، ما أتاح له الخروج وانتظارها مع جموع المستقبلين.
ازدحام.. وأحلام تتهشم بين الأقدام. أمواج من البشر القادمين والمغادرين، وهو المغادر من قبل أن يصل، لكأنّه جاء ليغادر.
راح يتابع حيرتها أمام وجوه الرجال وهيئاتهم. تأمّلها من بعيد وقد استوقف نظرها رجل تمنّت لو كان هو. بادلها الرجل النظرات عندما رآها تحدّق فيه. لكن قبل أن تتوجّه نحوه، قادها حدسها إلى خيار خاطئ آخر.. بالمعايير الجماليّة ذاتها.
أذاً هكذا تمنّته أن يكون، أو هكذا توقعته.. عربيّ أربعيني.. وسيم يسحب حقيبة جلدّية سوداء خفيفة. أو مثل الآخر يسافر بدون أمتعة، سوى بذلة يحملها بيده في غلاف جلدي.. وبيده الأخرى يجرّ حقيبة رجل أعمال.
على نصف خطوة منه كانت.. دون أن تبلغه.
59
لم يحاول أن يقف في حيّز نظرها، عساه يساعدها على اجتياز الامتحان في اللحظة الأخيرة.
لعبة خطيرة تلك التي اختارها لامتحانها. هي هنا أمامه، هل الأهم الإمساك بها.. أم التمسّك بقراره؟
حدسه كان يقينه، هي لن تتعرف إليه. ما كان لها اصلاً من عينين إلا لغيره من الرجال. قرّر أن ينسحب أمام أوّل خطأ، فهو لا يتقّبل الهزيمة، ولا يرضى أن يُذلُ ولو أمام نفسه.
في الوقع، كان بإمكانه أن ينصرف حال نزوله من الطائرة، فالأمور قد حُسمت قبل الوصول. لكن ما أراد أن يعرفه، هو كيف تمنّته أن يكون. أراد أن يرى المسافة الحقيقيّة بينه وبين أحلامها. مايعريّه منه المال.. عندما تساويه الفرص بباقي الرجال!
ما كاد بهو المطار يفرغ في انتظار وصول الرحلة القادمة، حتّى رآها تغادر المطار خائبة. عند الحد الفاصل بين الفرصة وضياعها.. ضاع منها.
طلب سائقه على الهاتف. لمحها من زجاج سيّارته تنتظر دورها أمام محطة التاكسي. تركها للمطر. ابتسم بمكر. قرّر لحظتذاك أن يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعدٍ لن ترى فيه سواه.
في الصباح، عندما استيقظ، لم ينس أن يهاتف معهد العالم العربي، منتحلاً صفة صحافي، سائلاً عن عنوان إقامتها.
سيواصل مفاجأتها. لكن بإشعارها بعد الآن أنها خسرته.
***
60
ماتوقّعَت كميناً محكماً كهذا. كيف لها أن تتعرَف إليه في مطار؟
ألم يجد مكاناً أقلّ ازدحاماً؟!
إنها لعبة غير نزيهة، مادام وحده أحد الطرفين يعرف الآخر. ثمّ .. أما كان يمكن أن يكسر قواعد اللعبة في اللحظة الأخيرة معلناً أنه هزمها؟ أي انتصار هذا الذي يخسر فيه موعداً انتظره طويلاً!
عليها الآن بعد الترقّب المبهج، أن تتأقلم مع الغياب الموجع. كانت تحتاج إليه من أجل كلّ الأفراح التي منّت بها نفسها، والمباهج التي خالت أنّ القدر سيهديها إليها أخيراً. وأيضاً لمواجهة انكسارات الروح، في مدينة زارتها قبل خمس سنوات سعيدة، وتعود إليها وحيدة. حمدت الله أن يكون عمّها الذي استقبلهم هي ووالدها وعلاء آنداك في بيته قد ترك باريس وعاد بعد تقاعده للعيش في الجزائر.
لو أنّه في باريس، لكان أفسد عليها حفلها بوعيده، كما في الجزائر، متّهماً إياها بتدنيس شرف العائلة، لكونها ((لم تجد رجلاً يتحكّم فيها)). كأنّما الموت غنيمة حرّيّة، سعِدت بالفوز بها حين فقدت أغلى الناس عليها. لو كان أكثر حنواً وتفهّماً، لربما بقيت في الجزائر.. لكنْ، كثيرٌ عليها أن تُخوض معارك حتّى ضدّ أهلها.
في الثمانينات، قصد والدها حلب لدراسة الموسيقى، فعاد منها بعد سنتين وكأنه تخرّج من مدرسة الحياة. أمّا عمها فكان قد سافر في السبعينيات للعمل في فرنسا، وعندما عاد إلى الجزائر ليتقاعد، بدا كأنّ كلّ تلك السنين في أوروبا لم تترك أثراً في عقليّته.
61
فجأة طالت لحيته، وتغيّرت لغته، واعتمد لباساً يقارب زيّ الأفغان، وأصبح لا يتردّد إلى بيتهم. ودون أن يعلن ذلك، كان واضحاً أنه رأى في احتراف أخيه للغناء ارتكاباً لفعل مستهجن يقارب الحرام.
في آخر زيارة لهم، لم يمكث للعشاء. كان قد حضر ليأخذ من أبيها تسجيلات يُنشد فيها والده ابتهالات دينيّة في إحدى المناسبات، ومضى.
كان المطربون على أيّام جدّها منشدين، وأبناء طرق وزوايا دينيّة. وكانوا ثوّاراً أيضاً ومجاهدين، نجا بعضهم وسقط آخرون، كأحد أبناء مشيخة الزاوية المختاريّة، الذي اكتُشف أمره. كان عازف كمنجة ويهرّب وثائق الثورة بإلصاقها في جوف الكمنجة. سمعت القصّة من جدّها، الرجل الذي أهدى لها طفولة سعيدة، دون أن يسعى حقاً لذلك، فقط منحها حظّ التردّد إليه في بيته على ربوة عند سفوح الأوراس.
كان جدّها بسيطاً, منسوب حكمته أعلى من منسوب حصاده, زاهداً في بهارج الحياة و قشورها. يحيا في تعايش سلمي مع الطبيعة ، يحضر الاعراس , يستمع بالولائم, يننشد مع المنشدين, ويغنّي مع المغنّين ما يحفظ من التراث البربري الشاوي. لكنّه لا يقبل مالاً من أحد , ولا حتّى من أبنائه . يبيع عند الحاجة رأساً أو رأسين من ماشيته . كلّ ما يحتاج اليه يوجد في مزرعته . و ما كان يحتاج للكثير. عاش متصوّفاً على طريقته ، لم يستهلك يوماً بذلات ولا ربطات عنق ولا احذية جديدة , ولا حتّى ادوية.
62
عبر الحياة ناصع البياض, من برنسه الأبيض إلى كفنه الأبيض. سمعته يقول يوماً لوالدها في جلسة احتدّ فيها النقاش (( لمّا تموت و عندك مليون في البانك وحدك على بالك بيه .. لكن كي تكون بلا كرامة الناس الكلّ على بالهم بيك .. صيتك اللّي يعيش مبعدك مش جيبك))
ما كان لجدّها من جيب ، هو لا يحتفظ بشيء لنفسه فما حاجته إليه؟ في بيته لا ينام إلا الضيوف ، يستبقيهم ثلاثة أيام حسب أصول الضيافة ، وفي اليوم الثالث يُقسم ألا يغادروا بيته الا محمّلين بالسمن و الفريك والكسكسي . ذات مرة , احتجّت زوجته لأنه أعطى الضيوف جلّ مؤونتهم . ردّ عليها (( يا مرا .. الكرم يغطّي العيوب .. يمكن شافوا منّا شيء ما شفناهاش .. خلّينا نستر حالنا بالجود )).
كان من (( أولاد السلطان )) الذين يقال عند ذكرهم (( سلاطين و ما ملكوا )) . لسخائهم ، لم يُتوّجوا ، تنازلوا عن جاه الحكم ليسودوا بجاه الكرم ، هم سلاطين بما وهبوا لا بما كسبوا . على حاجتهم يغدقون حتّى ليبدو لمن يزورهم أنهم أثرى منه. لذا,عندما سقطت قسنطينة ، لجأ أحمد باي إليهم، فقد كان باياً في ضيافة بايات ، وفارساً في حماية ارض هي حصن طبيعيّ، تأبى ان تُسلّم من يلوذ بها . فلتلك الأرض أخلاق عربيّة، انصهرت في وجدان الشاوية ، وجعلت منهم أشرس المدافعين عن قيم العروبة .
ما نسيت دموع جدها و هو يحكي مآثرهم . لعلّ ما أبكاه أن جوده ما ترك ليده ما تجود به . حتّى في الموت كانوا الأكرم مقبلين على الشهادة بسخاء ، فمن الأوراس انطلقت شرارة التحرير . ما كان يمكن للثورة أن تولد إلا في تلك الجبال (( الشاهقات الشامخات )). جغرافيتهم هي التي أنجبت التاريخ. على مدى تسعة اشهر،
63
حمل رجال الأوراس الثورة وحدهم ، احتضنوها شعلة فحريقاً ، اودى بقُراهم و مزارعهم و اهاليهم ودشراتهم و ماشيتهم . عزّلاً واجهوا جيوشاً لا عهد لهم بعتادها ، و حروباً ما عهدوا اهوالها . فقد اعتقدت فرنسا أنها إن سحقتهم ، سحقت الثورة إلى الأبد . حينئذ هبّ قادة الثورة ليفكّوا الحصار عن الأوراس بنقل العصيان الى مناطق اخرى ، بعد أن رأوا أنّ من غير العدل أن تستفرد الجيوش الفرنسيّة بأبناء الأوراس دون غيرهم .
قبل عيد ميلادها السابع عشر بأيّام رحل جدها أحمد . بلغت سنّ الرشد باكراً . موته كان اوّل علاقة لها بفاجعة الفقدان. كان كلأوراس المكلّل أبداً بالثلوج ، يبدو بقامته الفارعة و بعمامته البيضاء قريباً من السماء، فلم تكتشف أنّه تحت العمامة كان يشيخ و يهرم ، فحتى شارباه المضفوران إلى الأعلى لم يطاولهما الشيب . في طفولتها ، كثيراً ما كانت تقاسمه نزهته ، تتسلق معه الجبل ممسكه بيده او بتلابيب برنسه ، الى أن يبلغا أعلى نقطة يمكن أن تصل قدماه اللتان تربّتا على تسلّق الجبال، حينذاك يجلس تحت شجرة من أشجار الصنوبر ، وعندما يرتاح ، يأخذ نايه المعلّق الى ظهر برنسه، ويشرع يغنّي كأنه نواح ، يفضي به الى التجلّي نشوة كلّما عبر صوته الأودية إلى الجبال الأخرى . لا يسعد إلاّ عندما يعود له رجع الصدى ، وكأن احداً يردّ عليه من الجبل الآخر .