لزمن طويل, اعتقدت انّه ينادي احداً ، وأنّ ذلك الشخص يردّ عليه من بعيد لاستحالة مجيئه بسبب الوادي الذي يباعد بينهما . فكلّ غناء كان يبدأ بنداء يطول .. يطول كأنه نحيب (( يااااا ياااااي ) ..
64
لعلّ شجن مروانة جاءها من (( القصبة )) التي لم تعرف آلة سواها . في النهاية ، لكلّ قوم مزاج آلتهم الموسيقيّة . قل لي ماذا تعزف اقلْ لك من انت ، و اروِ لك تاريخك وأقرأ لك طالع قومك . للغجر عنفوان قيثارتهم ، وللأفارقة حمّى طبولهم ، و للفرنسيين مباهج الاكورديون ، وللنمساويين شاعريّة كمنجاتهم ، و للأوروبيين أرستقراطية البيانو، وللأندلسيين سلطنة العود ..
لاحقاً ، أدركت أنّ غناء رجال مروانة كان امتداداً لأنين الناي ، ف (( القصبة )) آلة بوح لا تكفّ عن النواح ، كطفل تاه عن أمّه ، و يروي قصته لكلّ من يستمع اليه فيبُكيه ، لذا الناي صديق كلّ أهل الفراق ، لأنه فارق منبته ، و اقُتلع من تربته ، بعد أن كان يعيش بمحاذاة نهر ، عوداً أخضر على قصبة مورقة . تُرك ليجفّ فأصبحت سحنته شاحبة ، وانتهى خشباً جامداً. عند ئذ عُرض للنار ليقسو قلبه ، وأحدثوا فيه ثقوباً ليعبر منها الهواء كي يتمكّنوا من النفخ فيه بمواجعهم .. واذا به يفوق عازفه أنيناً .
من تُرى جدّها قد فارق، ليصاحب الناي ؟
كان يصعد الى قمّة الجبل ليقيم حواراً مع نفسه، عن وجع وحده يعرفه . أو لعله يعود كلّما استطاع ، كي يختبر صوته، فهو يقيس بحنجرته ما بقي أمامه من عمر ، ففي عرفه، أنّ رجلاً فقد صوته فقد رجولته .
روى لها أنه أثناء حرب التحرير ، كان يصعد إلى أبعد مرتفع في الجبل ، للقيام بنوبة حراسة للقرية، وعندما يرى من بعيد قوافل (( البلاندي)) و المدرّعات الفرنسية مقبلة ، ينادي منبّهاً أبناء الدشرة لقدوم الفرنسييّن، فيتلقّف صداه ((ترّاس)) في الجبل الآخر، ثمّ آخر، ويتناقل الرجال النداء عبر الجبال متناوبين على إيصال الخبر إلى الأهالي كافة.
65
كانت الجبال منابرهم، وهواتفهم، ومنصّات غنائهم، وحائط مبكاهم، وسقفهم، لذا أعلنت فرنسا الحرب على الجبال، وألقت قنابل النابالم على الأشجار.. كي تحرق أيّ احتمال لبقائها واقفة.
لا تذكر أنها سمعت جدّها يوماً يغنّي أغنيةً فرحة. برغم ذلك، ما رأته يوماً حزيناً حقاً. حين كبرت، أدركت أن رجال مروانة يتجمّلون بالحزن، يتنافسون على من يحتفي بالشجن أكثر، فالشجن حزن متنكّر في الطرب. ذلك أن الطبيعة جعلتهم قساةً وعاطفييّن، والتقاليد الصارمة أهدت إليهم أكثر قصص الحبّ استحالة. فكيف لا يكونون سادة الأساطير والغناء؟
في ذلك الزمن الجميل، لم يحدث أن أفتى أحد بتحريم صوت امرأة، كيف ومروانة اسم أنثويٌ كدندنة، تخاله أغنية، هي صغيرة وغير مرئيّة، كنوتة موسيقيّة، لا توجد على خرائط المدن الجزائريّة، بل على خريطة السولفيج.
كلّ صباح، يصعد رعاتها السلّم الموسيقيّ، أثناء تسلّقهم مع أغنامهم جبالها. يطلقون حناجرهم بالغناء، فيحمل الصدى مواويلهم عابراً الأودية إلى الجبال الأخرى. لذا منذ الأزل يُباهي رجالها بحناجرهم لا بما يملكون. ففي مروانة فقط، يرفع الرجال إلى السماء ذلك الدعاء العجيب الذي لم يرفعه يوماً بشر إلى الله ((ياربي نقّص لي في القوت... وزد لي في الصوت!)). لزهد الطلب، استجاب الله لهم.
66
مروانة.. يا لغرورها، بلدة تخال نفسها بلاداً، فهي تعتقد أن مضاربها تصل حيث يصل صوتها!
لفرط ما رافقت جدّها على مدى سنوات إلى ذلك الجبل، اعتادت أن ترى العالم بساطاً تحتها. لم تكن نظرة متعالية على العالم، لكن تعلّمت وهي على أعلى منصّة للطبيعة، ألّا تقبل أن يطلّ عليها أحد من فوق.
هكذا تحكّم جبل الأوراس في قدرها.
*** نامت متعبة. تمنّت لو استقبلتها باريس بالأحضان. لكنّها أستقبلتها بالأمطار وبباقة ورد تقول ((تمنّيت ألا تخسري الرهان)).
كيف عرف هذه المرّة أيضاً مكان إقامتها، ومن يكون هذا الذي يتحكّم في نشرتها العاطفيّة مداً وجزراً؟ باقة بعد أخرى بدأت تكره هذه الورود المتعالية الغريبة اللون. هي ابنة المروج، نبتت بمحاذاة الأزهار البّريّة، لها قرابة بأزهار اللوتس، وبزهرة السيكلامان الجبليّة، فلماذا يطاردها بهذه الورود الغريبة اللون؟ لو أنها ماتحدثت إليه على الهاتف، لخالته أحد المرضى النفسانيين. لكنه يبدو رصيناً وصارماً في قراراته، بقدر مكر مناوراته. رجل في كلّ غموضه الآسر، غموضه المرعب. ماتوقّعت وهي تقبل بقواعد لعبته، أنّها كانت عند أول خطأ معرّضة لصاعقة فقدانه. أيُعقل أن تكون فقدته حقاً لمجرّد كونها لم تتعرّف إليه؟
67
انتابها أسى خسارة شيء لم تمتلكه اصلاً. لكن كان امتلاكه حلمها.
طلبت أمّها تطمئنها، وإلّا فلن تنام هي أيضاً، وستؤلّف في ليلة كلُ سيناريوهات المصائب، هكذا هي، ما عادت تتوقّع خيراً من الحياة. أحياناً كثيرة ينتابها الإحساس أنّها غدت والدة أمّها. لقد هدّ الألم تلك المرأة، التي كانت في السابق قويّة إلى درجة اتخاذ القرار بمغادرة حلب قبل ثلاثين سنة، والإقامة مع زوجها في بلاد لا تعرف عنها شيئاً، والتأقلم مع ظروف ما كانت تشبه حياتها في سورية.
ردّت نجلاء على الهاتف مبتهجة:
-كيفك حبيبتي.. إن شاالله وصلت بخير؟
-الحمدلله.. وإنتو كيفكم؟
-تمام.
-وهيدا الأخوت تبع الورد.. كيف طلع؟ إن شاالله حلو؟
ردت باقتضاب:
-إيه حلو..
لو قالت إنّها لم تره، لكان عليها أن تحكي نصف ساعة لتشرح ماحدث. وهي تتحدث على هاتف الفندق وسعر المكالمة مضاعف. لاحقاً ستحكي لها التفاصيل.
-فيكي تعطيني ماما؟
-خالة عم بتصلّي..
-طيب طمّنيها إنّي وصلت بخير. بكرة بحكيها.. باي حبيبتي.
68
إمّها كانت تريد أن تزوّج علاء بنجلاء. تقول إن أحدهم خُلق للآخر حتى في تقارب اسميهما وإنهما ((ما شاء الله الاثنين حلوين)). إليست ابنة خالته؟ ثم تحاول إغراء نجلاء بأخلاقه ((يقبرني شو طيّب وشو عاقل ها الولد)). غير أنّ لعنة علاء كانت بالذات في وسامته وحسن خلقه.
في الواقع، كانت أمّها تخطّط لجعله يغادر الجزائر، وينجو من بلاد بدأ يُهيمن عليها الجنون، ويحكمها الخوف والحذر.
ما ارتاحت أبداً لقرار الإقامة في قسنطينة لمتابعة دراسته في الطبّ.
كان عذره أنّها أكبر الجامعات في الشرق الجزائري، وكان مأخذها أنّه ذاهب إلى بؤرة الأصوليّة، محمّلاً بعقيدة الحياة.
صدق حدس أمومتها. كانت جامعة قسنطينة ممراً إجبارياً لكلّ الفتن، ومختبراً مفتوحاً على كلّ التطرفات. وبرغم ذلك، حاول علاء على مدى أربع سنوات أن يضع مسافة حذر بينه وبين زملائه. لكن ليس بينه وبين الزميلات، اللائي كنّ يلجأن إليه لما يوحي به من طمأنينة، وما يشعّ به من تمّيز في هيئته كما في تصرّفاته. كان ذلك مصدر متاعب إضافيّة، فأصحاب اللحى لم يغفروا له حظوته لدى بنات الجامعة، برغم قدر الاحترام الذي كان يحكم علاقته بهنّ، ولا غفروا له المجاهرة بآرائه تجاههم.
ثم حدث على أيام الرئيس بوضياف، أن دهمت السلطات الجامعة، وقبضت على عشرات الإسلاميّين، وأرسلتهم إلى معتقلات الصحراء بعد أن ضاقت المدن بمساجينها. عندئذ قرّر علاء أن يترك الجامعة حال تقديمه امتحانات آخر السنة، استجابة لإلحاح أمّه، على أن يسافر لاحقاً إلى العاصمة لمواصلة دراسته هناك. كان يفصله عن الامتحانات شهران، لكنّ القدر كان أسرع منه، ما مرّ أسبوع حتّى حضر إلى الجامعة رجال الأمن، واقتادوه مع اثنين آخرين.
69
منذ ذلك الحين، أخذت حياته مجرى مأساة إغريقيّة، تتناوب فيها الآلهة على مصارعة إنسان اقترف ذنب حبّ الحياة، وحبّ فتاة ماكان يدري أنّ أحد الملتحين يشاركه في حبّها. ولأنّه لم يحظ بها، وشى به زوراً حتى لا يخلو لهما الجو أثناء اعتقاله.
كانت معتقلات الصحراء تضمّ عشرات الآلاف من المشتبه فيهم، يقبع بينهم الكثير من الأبرياء، فلا وقت للدولة للتدقيق في قضاياهم، أو محاكمتهم، لانشغالها بمن احتلّوا الغابات والجبال، وأعلنوا الجهاد على العباد والبلاد.
وجد علاء نفسه متعاطفاً مع الأسرى، بعد ما رآه من مظالم وتعذيب، وما عاشه من قهر وهو يخاول عبثاً إثبات براءته. بعد خمسة أشهر أٌطلق سراحه، لم يُقم بين أهله أكثر من بضعة أسابيع، كان في كل حي شبكات تجنيد، كما شبكات لاختطاف الأطبّاء والتقنييّن وكل من يحتاج الإرهابيون إلى مهاراته. أقنعوه بأن يلتحق بالجبال، ليضع خبرته في إسعاف ((الإخوة)) هناك ومعالجة جرحاهم.
لم يستشر أحداً، ولا أخبر أحداً بقراره. تحاشى تضرّعات أمّه ودموعها، والغضب العارم لأبيه الذي ما كان ليقبل بانحيازه لـ((حزب القتلة)). هاتف مقتضب منه أخبرهم بذلك. قال إنّه هناك ليعالج الناس ليس أكثر.
كان فيه شيء من غيفارا، ذاك الذي استعمل رحمة الطبيب لمداواة الشعوب من جراح الوحوش البشريّة مهما كان اسمها، دون أن يفرّق بين الظالم الحقيقيّ، والظالم المدجّج بسيف العدالة.
70
علاء يصلح بطلاً لرواية يعيش فيها البطل حياة لم يردها، حدث له فيها نقيض ماتمنّاه تماماً.
كان يكره أصحاب البزّات وأصحاب اللحى بالتساوي، وقضى عمره مختطفاُ بينهما بالتناوب. وجد نفسه خطأً في كلّ تصفية حساب، يحتاج إلى لحيته حيناً ليُثبت لهؤلاء تقواه، ويحتاج إلى أن يحلقها ليُثبت للآخرين براءته، حاجة الضحيّة إلى دمها ليصدّقها القتلة.
انتهى به الأمر أن أصبح ضدّهما معاً. أدرك متأخراً أن اللعبة أكبر مما تبدو. كان المتحكمون يضخّمون بعبع الملتحين، يغتالون صغارهم، ويحمون كبارهم الأكثر تطرّفاً. يحتاجون إليهم رداءً أحمر، يلوّحون به للشعب حين ينزل غاضباً كثور هائج في ساحة كوريدا، فيهجم على الرداء وينسى أنّ عدواً قد يخفي عدواً آخر. فهو يرى الرداء ولا يرى الماتادور الممسك بالرداء، وفي يده اليمنى السهام التي سيطعن بها الثور، وفي اليسرى الغنائم التي سطا عليها.
الخيار إذاً بين قتلة يزايدون عليك في الدين، وبذريعته يجرّدونك من حرّيتك.. وآخرين مزايدين عليك في الوطنيّة، يهبّون لنجدتك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك.
حاولت أن تُخرج أخاها من تفكيرها كي تستطيع النوم، فأمامها في الغد مشاغل كثيرة. لكنّ علاء يطلّ عليها من كلّ شيء، فاجعتها به تفوق فاجعتها بأبيها. منذ سنتين ما استطاعت يوماً واحداً أن تتقبّل فكرة غيابه، فكيف تنساه في باريس التي زارتها معه.
أغمضت عيناها على منظر باقة التوليب.
71
شيء ما يقول لها إنّ ذلك الرجل سيطلبها، وإلّا لما قام بجهد البحث عن عنوانها. كانت تلك الفكرة الوحيدة التي يمكن أن تدخل السعادة إلى قلبها.
***
هو طاعن في المكر العاطفي، ويعرف كيف يُسقط أنثى كتفّاحة نيوتن في حجره. لكنّه يريدها أن تنضج على غصن الأنتظار. سيغدق عليها المفاجآت، حيثما تكن فستدركها وروده، لكنّ صوته لن يصلها بعد اليوم.
كان يمكن للطريق إليها أن يكون سهلاً، لكن طريقه إليها يمرّ بكبريائه، وهي أخطأت في تقدير الخسارات، لحظة قبولها قانون لعبته.
لقد أهانت ما كان كبيراً فيه، وشوّهت ماكان جميلاً، وشوّشت علاقته برجولته. أما من بذلة تكسوه غير ثروته؟ وحين يخلع ثراءه، بإمكان عابر سبيل أن يفوز عليه بقلب امرأة، لأنّه أكثر وسامة أو شباباً منه. مانفع عمرٍ إذاً، قضاه في صنع أسطورة تمّيزه، والعمل على رفعة ذوقه، وسطوة اسمه؟ أتكون كلّ النساء اللائي يطاردنه يكذبن عليه؟ يغازلن جيبه لا قلبه، ويحلمن وهنّ في سريره برجل سواه!
حتّى هذه الفتاة التي ليست أجمل ماعرف من النساء، لم تكترث بوجوده على مدى أربع ساعات قضتها بمحاذاته، ولا لفت شيء فيه نظرها وهو منتصب أمامها في المطار، برغم أنّ ثمّة من تغزّلن بعينيه، وأخريات بأناقته، أو كاريزما طلّته. لعلّها لاتدرك بعد مايغري فيه!
72
قصد مكتبه. قضى يومه منهمكاً في العمل لينهمك في نسيانها . برغم ذلك راح يفكّر: أيرسل لها ورداً بعد غدٍ إلى حفلها .. أم لا ؟
قرّر الّا يغيّر عادته . بلى سيرسل لها الباقة نفسها لكن بدون ايّ بطاقة ، لمزيد من العبث بأعصابها . ستتوقّع وجوده في القاعة ، وستواصل البحث عنه بين الجمهور.. هي لا تدري أنّ من هو مثله لا يختلط بجمهور..إنّه الجمهور في حدّ ذاته.
أمدّ سكرتيرته الفرنسيّة بتاريخ الحفل وعنوان القاعة،وقال على غير عادته كما ليبرّر تعليماته:
_إني مدعوّ إلى حفل يتعذّر عليّ حضوره . ارسلي مساءً باقة ورد الى هذا العنوان، وكلّفي إحدى الشركات تصوير الحفل.
ها قد اصبح يتصرف كصائد،يجمع كلّ التفاصيل عن ضحيّته .وماذا لو كان هو الضحيّة في حبّ كامل الدسم .. مكتمل الألم؟
ما يعنيه هو اللحظة التي تتلقّى فيها باقته، وتروح تبحث عنه بنظراتها بين الحضور،متوقّعة أنّها هزمته،وأرغمته على خرق أصول اللعبة.
يسلّيه تأمّل النساء،في تذبذب مواقفهن،وغباء تصرّفهن أمام الإشارات المزوّرة للحبّ!
***
انتابها خوف لذيذ وهي في طريقها الى الحفل،غير ذلك هو الخوف الرهيب الذي عرفته يوماً.
73
هذه أوّل مرّة تغنّي في باريس. ينتظرها جمهور جزائري و فرنسيّون من المتعاطفين مع الجزائر،فقد غطّى الإعلام حدث حفلها ضمن المتابعة اليوميّة لما درج على تسميته ((المذابح الجزائريّة)).
تلقّفت الصحافة قصّتها،وها قد غدت رمزاً للنضال النسائي ضد ((الاسلامييّن)) و ((العصفورة التي كسرت بصوتها قضبان التقاليد العربية متحدية من قصوا جناحيها))
كان يكفي ان تؤنث المأساة،وتضاف اليها توابل الاسلام والارهاب،والتقاليد العربيّة متحديّة من قصّوا جناحيها )).
كان يكفي أن تُؤنَّث المأساة ، وتضاف إليها توابل الإسلام والإرهاب والتقاليد العربيّة،لتكون قد خطت خطواتها الاولى نحو الشهرة!
هاتفها ابن عمّها جمال يعرض عليها الحضور إلى الفندق لمرافقتها إلى الحفل. هو يختلف تماماً عن أبيه. شابّ عصري، أنيق، متفتّح، فيه شيء من علاء.
بدا جمال في علاقته معها حائراً بين ابنة عمّه التي كان يعرفها أيام زيارتها لهم، والنجمة التي تجلس بجواره في السيّارة بكعب عالٍ، وشعر مبعثر على كتفيها، وفستان أسود طويل.
لتطمئنه أنّها لم تفقد روحها الجزائرية الساخرة، قالت مازحة:
-لو كنت رايحة انغني في حفل بالجزائر ما خليتكش تجيي معايَ.. واش نعمل بيك وإنت جايني لابس costume وحاط الجل على شعرك.. يلزمني واحد بحزام أسود للمصارعة.. أو بالأحرى أربعين مصارعاً لمرافقتي!
74
لم يفهم ماتعنيه. توقّع أنها تستخفّ بهيئته. أمام صمته أضافت موضحة:
- ألم تقرأ أنه بسبب تهديدات جماعة من الأصوليّين اضطرّ القائمون على حفلات قاعة الأطلس في العاصمة إلى استقدام أربعين مصارعاً من الحاصلين على حزام أسود لضمان حياة آيت منغلات والجمهور الذي حضر حفله، خشية أن يعتدي عليهم من حاصروا القاعة في الخارج؟ تصوّر في كلّ بلدان العالم يقصد المطربون الحفل مع فريق من المصوّرين والمزيّنين. أمّا عندنا، فيدخل المغنّي القاعة بفرقة من المصارعين. وبرغم هذا، أنت لا تضمن حياتك.. لو أرادوا رأسك لجاؤوا به حتّى لو حضرت برفقة ((بروس لي)) بطل الفنون القتاليّة شخصياً!
علّق جمال مازحاً: -أنا مانيش متاع هذا الشي.. خاطيني ((الكاراتي)).. في البلاد شوفي واحد آخر يروح معاك!
-تعرف.. والله أغار من الذين يعزفون في الميترو في باريس. كلٌ يغنّي على مزاجه. قد يمرّ أحدهم ويضع له في قبّعته يورو، وقد لا يضع شيئاً. لكن على الأقل لا يضع له رصاصة في رأسه!
واصلت ضاحكة:
-الحمدلله.. نظلّ أحسن حالاً من الأوكسترا الوطنية العراقّية..أطلقت عليها الصحافة اسم ((أشجع أوركسترا في العالم)). تقيم حفلات سرّية لا يرغب المنظّمون في الإعلان عنها، بل يفضّلون أن يعلم بأمرها أقلّ عدد ممكن! تصوّر.. دمّرت الصواريخ الأمريكيّة قاعة حفلاتها، وخُطف البعض من أفرادها، وقُتل آخرون لأسباب طائفيّة، وفرّ نصف أعضائها للخارج.. ومازال من بقوا على قيد الحياة يقطعون حواجز الخطف والموت، ويصلون إلى المسرح ببزاتهم السوداء، حاملين آلاتهم في أيديهم ليعزفوا، وسط دويّ المتفّجرات، مقطوعات سمفونيّة لباخ وفيفالدي.. كما لو كان كلّ شيء طبيعياً. مشهد سريالي، الفرقة والجمهور مرعوبون لكنهم يستعينون على خوفهم بالموسيقى. والله هَمّ ينسّيك هَمّ!
75
كانت بحاجة إلى أن تستعرض بطولات الآخرين لتستقوي بهم على خوفها. الحقيقة أنها كانت تغنّي لأوّل مرّة في فرنسا، وتقف تحت أضواء إعلاميّة أكبر من عمر صوتها، فهي لم تكن مهيّأة لقدر كهذا. كل هذه الضجة التي رافقتها تربكُها، لفرط ما طالبوها برفع سقف التحدّي، كلّ حسب انتماءاته. البعض قال لها: ((مذ غنّى عيسى الجرموني في الخمسينيات في قاعة ((الأولمبيا)) الشهيرة، هذه أول مرّة يستعيد الشاوّية مجدهم في باريس)). ردّت بأنها خارج الجزائر جزائرية فحسب.
كانت تمازح جمال لتروّض توتّرها المتزايد. غير أنها وجدت طريقة للسيطرة على انفعالاتها بإلقاء كلمة صغيرة تمنحها فرصة استيعاب الموقف والسيطرة على الجمهور منذ اللحظة الأولى. ذلك أنّها في النهاية مُدرّسة، والتوجّه إلى الآخرين من منصّة هو نقطة قوّتها. أمّا الوقوف على المسرح ومباشرة الغناء، فهو أمر ما زال يُربكها.
ما كادت تُطلّ على الجمهور، حتّى ارتفعت موجة من التصفيق والهتافات الوطنيّة، وراح البعض يلوّح بأعلام الجزائر. كان الجوّ مشتعلاً بما فيه الكفاية. شعرت بأن الذين حضروا لم يأتو للطرب، بل ليعلنوا رفضهم للإرهاب. إنّها هنا أمام أنصارها.
76
أرتجلت كلاماً كانت قد أعدّت بعض أفكاره في ذهنها. جاء كلامها مذهلاً في تلقائّيته، مؤثّراً في نبرة قوّته. خيّم صمت كبير على القاعة. لقد كانت تتكلّم وهي تطلّ عليهم من جبلها ذاك.
قالت:
-ذات يوم.. ساق الإسرائيليون سهى بشارة بطلة المقاومة اللبنانيّة إلى ساحة الإعدام.. أوهموها أنهم سيعدمونها، قيدوا يديها ورجليها وصوبوا فوهة المسدس إلى رأسها وسألوها عن أمنيتها الأخيرة في الحياة. ردّت ((أريد أن أغنّي)) وراح صوتها يترنّم بموّال من العتابا الجبليّة:
((هيهات يابو الزلف عيني ياموليَّ محلا الهوى والهنا والعيشة بحرّية))
أشبعوها ضرباً وعادوا بها إلى الزنزانة. وواصلت سهى بشارة الغناء.
على مدى أعوام، اعتاد أسرى السجن الخيام سماع غنائها. صوتها البعيد الواهن، القادم من خلف قضبان زنزانتها، أبقاهم أشدّاء. فإنّ من يغنّي قد هزم خوفه.. إنّه إنسان حرّ!
بلى، بإمكان من لا يملك إلّا حباله الصوتيّة أن يلفّ الحبل حول عنق قاتله، يكفي أن يُغنّي، فلا قوّة تستطيع شيئاً ضدّ من قرّر أن يواجه الموت بالغناء.
عندما اغتال الإرهابّيون الشابّ حسني، وقطفوا زهرة صوته، ما توقّعوا أن يصعد شقيقه إلى المنصّة، ليثأر لدم أخيه بمواصلة أداء أغانيه أمام جثمانه، أربكهم أن يواجههم أعزل إلاّ من حنجرته.
بلى، بإمكاننا أن نثأر لموتانا بالغناء. فالذين قتلوهم أرادوا اغتيال الجزائر باغتيال البهجة. أوليست ((البهجة)) هي الاسم الثاني للجزائر؟ ليعلموا أنهم لن يخيفونا، ولن يسكتونا.. نحن هنا لنغنّي من أجل الجزائر، فوحدهم السعداء بإمكانهم إعمار وطن.
77
انطلق النشيد الوطنيّ ووقفت القاعة تنشد:
((قسماً بالنازلات الماحقات والجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا فاشهدوا)).
ما كاد ينتهي النشيد حتّى ارتفعت الزغاريد والهتافات، وصعدت سيّدة إلى المنصّة لتقبِّلها وتضع علم الجزائر على كتفيها.
حيث تحلّ يقلّدها الموت وسامه. هي ابنة القتيل وأخت القتيل. لها قرابة بمئتي ألف جزائري ما عادوا هنا. قتلهم الإرهابيون، واختلف في تسميتهم الفقهاء: أهُم ((قتلى))؟ أم ((ضحايا))؟ أم ((شهداء))؟ فكيف يفوزون بشرف الشهادة، وهم لم يموتوا على أيدي ((النصارى)) بل على أيدي من يعتبرون أنفسهم يد الله، وبيده يقتلون من شاؤوا من عباده؟
كان ذلك الحفل أجمل ماعاشته منذ مأساتها. أدّت فيه أكثر ممّا كان مقرّراً من أغان. ثم عادت ببعض باقات الورد، لتبكي ليلاً وحدها.
أليس الغناء في النهاية هو دموع الروح؟
في الفندق، تأمّلت باقات الورد المتواضعة التي قُدمّت لها. إنّها الأبسط لكنّها الأصدق؛ من مغتربين بسطاء يقولون الأشياء دون تنميق أو بهرجة. إحداها كُتب عليها بالفرنسية ((L'Algerie t'aime)). بكت. هل حقاً ((الجزائر تحبّها))؟
78
كما كانت بحاجة إلى هاتين الكلمتين! لكن، لفرط ما أسدى لها الوطن من ضربات، ما عاد أذاه بل حبّه هو الذي يبكيها. ثمّ، ماجدوى نجاح تعيشه وحدها، ما دامت الجزائر التي تحبّها ما تركت لها رجلاً تقتسم معه فرحتها.
حتى ذلك الرجل، قاصصها بصمت، كباقة التوليب التي وصلتها منه دون أيّ كلمة. باقة صامتة كصاحبها، الذي أغلق هاتفه وماترك لها من وسيلة لتقول له شيئاً.
هل أكثر عنفاً من الصمت العاطفي؟
وثمّة إرهاب آخر كان ينتظرها، مقنّعاً بالشفقة وبروح الإنسانيّة. كلّ من حاورها من الصحافة الأجنبّية أرادها ضحيّة التقاليد الإسلامية، لا الإرهابين. خرجت للغناء لكسر القيود التي يكبّل بها الرجل العربيّ المرأة، لا لتتحدىّ القتلة. ثم ماذا لو كان الجيش هو الذي يقتل الأبرياء.. ثم يقدّم نفسه كطوق نجاة فيفضّل الناس الطاعون على الكوليرا؟!
عندما أجابت بغير ما أرادوا سماعه، أولى لها الإعلام ظهره، وألغيت دعوتها إلى حلقة تلفزيونيّة كانت ستشارك فيها.
فليكن! الشجاعة هي أن تجازف بقول ما لا يعجب الآخرين. وهي ليست هنا لنشر غسيل الوطن على حبال صوتها. ولماذا عليها أن تضع اسماً للقاتل؟
كان ولاؤها أوّلاً للحقيقة، وهي لا تملكها كاملة، وتدري أنّ كلّ شيء كان ممكناً في وطن من فوق قبوره تٌبرم صفقات الكبار، وتحت نِعال المتحكّمين بمصيره يموت السذّج الصغار. لكن في حياة قضتها واقفة، لم تكتسب يوماً مهارات الجلوس على المبادئ، لذا لن تفوز بشهرة لاتفتح في الغرب إلّا لمن يُتقن دور الضحيّة، مًضحّياً بقيمه. لذلك الضوء الساطع ثمن ما كانت جاهزة لدفعه.
79
في الجزائر، أدركت على حسابها أنّ الحروب ليس فيها حقيقة واحدة، ولا إرهاب واحد.
الإعلام الرسميّ الذي راح بداية يبارك تمرّدها، ويروّج لها كنموذج لجزائر الصمود والشجاعة، كان في الواقع يُصفّي من خلالها حساباته مع الإسلامييّن، وسرعان ما تحوّل إلى تصفية حساباته معها.
بدأت مشاكلها حين راحت تصرّح للصحافة الحرّة، بأنّ ثمّة جزائر للقلوب وأخرى للجيوب، وإرهاباً سافراً وآخر ملثّماً، وأن كبار اللصوص هم من أنجبوا للوطن القتلة، فالذين حملو السلاح ماكانوا يطالبون هم من أنجبوا للوطن القتلة، فالذين حملوا السلاح ماكانو يطالبون بالديمقراطيّة بل بديمقراطية الاختلاس وبحقّهم في النهب، إذ لا سارق اقتيد إلى السجن.
في ذلك الحين، بدأ الغربان ومتعهّدو الدماء يحومون حول صوتها النازف، ويشجّعونها على رفع النبرة، ويزوّدونها الأسماء.. وأعواد الكبريت!
كانوا يريدونها حطب المحرقة، لكنّ ((جان دارك)) التفتت ساعة المعركة فما رأت رجلاً. وجدت نفسها وحيدة مثل ((حامل الفانوس في ليل الذئاب)) في مواجهة وحوش جاهزة للانقضاض على أيّ أحد، دفاعاً عن غنيمتها. الكلّ أدرك فحوى الرسالة ((كن صامتاً.. أو ميتاً)). كلّ حكم يصنع وحوشه، ويربّي كلابه السمينة التي تطارد الفريسة نيابة عنه.. وتحرس الحقيقة باغتيال الحقّ.
80
ذات صباح، طلبها المدير ليخبرها أنّها مفصولة من العمل. الذريعة أنّ الأهالي لا يريدون أن تُدرّس مطربةٌ أبناءهم. ذريعة تشكّ كثيراً في صدقيّتها. فما كانت مطربة حفلات ولا أعراس. هي لم تكن قد غنّت سوى مرّتين: مرّة في ذكرى وفاة والدها، ومرة في برنامج تلفزيوني. ثم إنّها كانت محبوبة لذا الأهالي، فقد كانت تزورهم في بيوتهم، أو تهاتفهم لتطمئنّ على التلاميذ إن تغيّبوا. ففي تلك الأيام، كان المهم أن تحفظ رأسك لا أن تحفظ درسك، مذ درج الإرهابيّون على قتل كلّ من يحمل محفظة مدرسيّة، مُدرّساً كان أو تلميذاً.
رأت أمّها في قرار طردها إنذاراً أوّلَ، سيليه ما لا تُحمد عقباه. ولأنّها لم تشأ أن تترك قبراً ثالثاً في الجزائر، أخذت ابنتها وغاردت إلى سورية.
((حيثما أمُت، فسأموت وأنا أغنّي.))
فلاديمير ماياكوفسكي
83
أشعل غليونه وراح يتابع تسجيل الحفل.
عجب، وهو يراها ترتجل تلك الكلمة، أن يكون الإرهابيّون قد منعوها من الغناء. كان عليهم إصدار فتوى تحرّم عليها الكلام، إنّها أخطر وهي تتكلّم!
هو يفضّل كلامها. لو أنّها كانت تغنّي يوم رآها أوّل مرّة على التلفزيون لربّما غيّر القناة، ما أسره هو هذا الكبرياء، لعلّه سرّ شغف الناس بها أينما حلّت، لكأنّها ابنة البراكين، تتدفق حممها حال وقوفها على منصة.
كم يودّ قطف هذه الزهرة النارّية دون أن تحترق يده. أن تكون له وحده، هذه المجدليّة التي ماكادت تنهي الغناء، حتّى زحف الجمهور نحوها ليتبارك بها.
خاب أمله في رؤيتها حين أمدّوها بباقته، فقد أوقف المصوّر لقطاته حين طوّقها الجمهور وعمّ القاعة شيء من الفوضى.
أطفأ جهاز التسجيل وراح يفكّر في ما اكتشفه فيها.. فانكشفت به جراح روحه.
84
هذه امرأة تكمن ((أدواتها النسائيّة)) في صفاتها الرجاليّة.
هي شُجاعة ومُكابرة، وتملك حساً وطنياً فقدَ هو وهجه، لفرط غربته ومتاهته على مدى ربع قرن في البرازيل. هناك، في أرض الكرنفلات والأقنعة الأفريقيّة، أضاع ملامح وجهه الأصليّة. كلّ من أقام في البرازيل سكنته كائنات الغابات الأمازونيّة، وأرواح نساء ما زلن يرقصن السامبا، في انتظار الصيّادين العائدين بشباك تتراقص فيها الأسماك، ونبتت له أجنحة ملوّنة، كالفراشات المدارية العملاقة في حقول الساركاو، فغدا كائناً خفيفاً لا يمشي بل يحلّق.. ففي رأسه لا يتوقّف البرازيلي عن الرقص.
حسدها لأنّ لديها قضيّة، وماعادت له قضايا منذ زمن.
في لبنان، ما من قضيّة إلّا تصبّ في جيب أحد. فليعمل المرء إذاً لجيبه.. بدل أن يموت ليصنع ثراء لصوص القضايا، وأثرياء النضال، المقيمين في القصور والمتنقّلين بطائراتهم الخاصّة. شرفاء الزمن الجميل، ذهبت بهم الحرب، كما ذهبت بأبيه، وقذف البحر بما اعتاد أن يرمي به للشواطئ، عندما تضع الحروب أوزارها.
في مامضى، في سبعينيّات القرن الماضي، أيّام الحرب الأهليّة، كان جاهزاً للموت حتى من أجل ملصق على جدار يحمل صورة قائد حزبه أو زعيم طائفته. الآن وقد تجاوز مراهقته السياسيّة، أدرك سذاجة رفيقه الذي مات في ((معركة الصوَر)) دفاعاً عن كرامة صورة لمشروع لصّ، أراد ساذج آخر أن يقتلعها ليضع مكانها صورة زعيم آخر لميليشيا. فمات الاثنان وعاش بعدهما اللصان.
هل ثمّة ميتة أغبى؟
85
بلى، ثمّة حماقة أكبر، كأن تموت بالرصاص الطائش ابتهاجاً بعودة هذا أو إعادة أنتخاب ذاك، من دون أن يُبدي هذا ولا ذاك حزنه أو أسفه لموتك، لأنك وُجدت خطأ لحظة احتفال ((الأربعين حرامي)) بجلوس ((علي بابا)) عل الكرسّي.
وثمّة عبثيّة الشهيد الأخير في المعركة الأخيرة، عندما يتعانق الطرفان فوق جثّته.. ويسافران معاً ليقبضا من بلاد أخرى ثمن المصالحة.. إلى حين.
حين وقع على هذه الحقائق، نزل من ذلك القطار المجنون، واستقلّ الطائرة هرباً إلى البرازيل، انشقّ عن حزب ((النضال)) وانخرط في حزب الحياة. ماعاد له من ولاءٍ إلا لها.
تلك البلاد التي وصلها مفلساً، ما عاش فيها يوماً فقيراً. فهناك يعمل الناس كما لو كانوا عبيداً، ويعودون من أعمالهم ليعيشوا بقيّة نهارهم أمراء. مباهجهم لا علاقة لها بجيوبهم، هي في أذهانهم. من يملك دولاراً يحتفي به كما لو كان ملياراً. فالدولار عندهم لا يغدو ثروة إلا اذا حوّلوه إلى حياة، بينما يكتنز غيرهم الحياة، بتحويلها إلى أوراق مصرفية يعمل صاحبها بدوام كامل حارساً لها.
منهم تعلّم أن يعيش الحياة كاحتفالية كبيرة، كما لو كان في كل موعد معها ينفق آخر دولار في جيبه، كي لا يتفوّق عليه سعادةً من ليس في جيبه إلّا دولار.
وحتى تلك الفتاة، تعنيه لأنّه يدري ماتخفيه تحت حدادها من شهوة الحياة. من مكر الأسود قدرتُه على ارتداء عكس ما يضمر! <
86
ما استطاعت أن ترفض دعوة بيت عمّها. تركت ذلك للآخر، حتّى لاتعكّر مزاجها منذ أوّل يوم.
أخذت لهم ما في غرفتها من ورود، كي تمنح الحب حياة أطول، فقد عز عليها أن تلقي تلك الورود وهي متفتحة في سلة المهملات.
عبثاً هربت من ذلك البيت، لا تريد أن ترى أطياف علاء ووالدها.. في الصالون وحول مائدة الطعام. وخاصة، لاتريد الرد على تلك الأسئلة التي توقظ المواجع. لكن أسئلة أبناء عمها جاءت مع فنجان الشاي.
-لماذا لاتقيمين في فرنسا إلى أن يهدأ الوضع؟
-أنا سعيدة مع أمّي في الشام.
-استفيدي.. اطلبي بطاقة الإقامة مادامت الظروف مؤاتية، ربما احتجت إليها لاحقاً. سيمنحونك حق اللجوء.. نصف الجزائر انتقل إلى باريس، معظمهم بملفات ملفقة.. منهم من يدعي أن السلطة تهدده، وآخر أن الإرهاب يطارده. أنت يطاردك كلاهما..
كانت ستردّ بأن الذاكرة وحدها هي ماتطاردها.. كما في هذا البيت.
وبرغم ذلك، جاء السؤال الذي لا مفرّ منه:
-سامحينا يا بنتي.. كيفاش مات علاء الله يرحمو، حدّ ما قال لنا واش صار؟
أُمّ جمال تريد أجوبة موجعة، تليق بفاجعة شاب في عمر ابنها استنفد أحلامه باكراً. تريد التفاصيل التي يحتاج إليها الأقارب الذين لم يروا جثّة فقيدهم، ويحتاجون إلى دليل وتفاصيل ليتقبّلوا فكرة موته.
ابتلعت دموعاً لا تريد ان تحتسيها في حضرة أحد.
87
هي هكذا، كلّما تكّلمت عن علاء، تحدّثت كما لو أنّه ما زال هنا. ثم لاحقاً، في اللحظة التي لاتتوقّعها، لسبب لا علاقة له في الظاهر به، تنهار باكية. الآن هي تروي، بنبرة عاديّة، قصة حدثت قبل سنتين، لشاب جميل، كما أولئك الذين يشتهيهم الموت.. كان أخاها الوحيد.
- عندما عاد من معتقلات الصحراء، سعدنا لأنهم، بعد خمسة أشهر لم نعرف فيها شيئاً عنه، اقتنعوا ببراءته وأطلقوا أخيراً سراحه. لكن لم يكد يمر شهران على إقامته بيننا، حتى جاء من يُقنعه بأن كل ماحدث له من مصائب هو بسبب ابتعاده عن الإسلام، فلا صلاته ولا صيامه سيشفعان له عند الله إن لم ينصر مجاهديه، لكونه قضى سنتين في العسكرية لخدمة الوطن، ولم يُعط من عمره شهراً لخدمة الإسلام. أغروه بالالتحاق بالجبل للإيفاء بدينه ومعالجة الجرحى من الإسلاميين ولو بضعة أسابيع. ذهب علاء دون أن يخبرنا بقراره. ما كان يدري أن الخروج من الجحيم ليس بسهولة دخوله.
صاح جمال مذهولاً:
-مضى بملء إرادته إلى الإرهابيين؟!
- استفادوا من حالة إحباطه ومما شاهد من مظالم في المعتقلات، ليلعبوا بعاطفته. إن لهم قدرة على إقناعك بما شاؤوا.
- وبعد ذلك؟
-بعد ذلك.. قضى أكثر من عامين متنقّلاً بين المخابئ في الجبال، يُعالج الجرحى ويولّد النساء المغتصبات اللائي ((سباهنّ)) الإرهابيّون بذريعة أنّهنّ بنات وزوجات موظفين أو عاملين في ((دولة الطاغوت))، لكن ذلك لم يشفع له. حين طلب السماح له بالعودة، غذّى شكوكهم، فقد كانوا يشتبهون في أنّ الجيش أرسله ليتجسّس عليهم، بسبب جهله في أمور الدين. تفتّقت حينذاك قريحة أحدهم
88
عن اختبار شيطاني، أن يُثبت لهم اعتناقه الجهاد بعودته لقتل والده، ويكون إذذاك آمناً على نفسه، بتصفيته مَن جعل من صوته ((مزامير للشيطان)). توقّفت عن الكلام لتستعيد جأشها.
سأل الجميع في الوقت نفسه:
-وماذا حدث؟!
-أمام هول الاختبار، غدا مطلبه أن يساومهم على حياة أبيه ببقائه معهم. قال لهم إنّه ماجاء ليقتل بل ليعالج، وإنّه سيبقى في خدمتهم ما شاؤوا مقابل ألاّ يؤذوا والده. ما كان يدري أن لا صفقة تُبرم مع القتلة، ولا توقع أنّه أثناء وجوده معهم أرسلوا من يقتل أبي. علم بذلك بع أشهر عندما نزل من الجبل مع من نزل من التائبين في إطار العفو والمصالحة الوطنيّة. أخرجته الصدمة من صوابه، وكان قد وصلنا نصف مجنون لهول مارأى. فقد غدا غريباً عن نفسه وغريباً عنّا، وإرهابياً في عيون أصدقائه السابقين، ومشبوهاً في عيون الإرهابيين الذين لم يغادروا بعد حجورهم في الجبال، ويعتقدون أنّه الحلقة الأضعف، وأنه سيشي بمخابئهم للجيش. وهكذا، أرسلوا أحداً لتصفيته بعد شهرين من إقامته بيننا.
صمتت فجأة. فهي لم تدرِ أيّ كلمة تختار لتصف حدث موته: ((تصفيته)).. ((قتله)).. ((الإجهاز عليه))؟.. لفرط ما مات علاء مذ استباحوا نبله، واغتالوا شهّيته للحياة، وأعدموا بهجة حواسّه، كلّ كلمات الموت مجتمعة لا تكفي لوصف عبثية رحيله الأبدي.
ها قد أشبعتهم التفاصيل.. فليبكوا إذاً!
انتهى الكلام لا الرواية، فلقد احتفظت لنفسها بالتفاصيل. <
89
نزل علاء من الجبال، مع آلاف ((التائبين)) الذين سلّموا أنفسهم إلى السلطات بعد الضمانات التي قُدمّت لهم. لم يتب عن القتل، فما اغتال سوى أوهامه. كان يحلم بالعودة إلى بيته، كما يحلم البعض ببلاد بعيدة موعودين بها. وعندما عاد إلى أهله، اكتشف أنّه لم يعد إلى نفسه. اهتزّ سلامه الداخلي، أصيب بحداد نفسي، ودخل واقع اللاواقع منزلقاً نحو الفصام. لفرط ما راكَمَ في سنتين من سنوات، ماعاد له من عمر.. ولا من اسم. ظل لأيام يُفاجأ عندما يُناديه أحد باسمه. يأخذ بعض الوقت قبل أن يّرد، ريثما يُصدّق أنّه المعنيّ.. وأنّه ماعاد ((أبو إسحق)) بل علاء.
كانت أوّل صدمة هي اكتشافه اغتيال أبيه في غيبته. سأل: ((كيف قتلوه؟)) وعندما علم أنّهم (فقط) أطلقوا رصاصتين على رأسه، كان عزاؤه أنّه لم يتعذّب. فمن حيث جاء، شهد صنوف التعذيب أهوالاً واجتهادات لا يمكن لنفس بشرية أن تتصوّرها.. أرحمها، جعلُ سجينٍ يحفر قبره بنفسه، وإجباره على التمدّد فيه، ثمّ تغطيته بالتراب ومشاهدته وهو يعطس ويبصق. وخلال لحظة يسود الصمت، فيطؤون التراب فوقه بأقدامهم ثمّ يرحلون.
بعض من وقع في الأسر، لتهمة لايدري ماهي، اختار الإسراع بالانتحار حتّى لا يتعرّض للتعذيب. شاهد أحدهم يخنق نفسه عبر أكل الرمل الممزوج بالأرض الممتدة حول الشجرة التي كان مربوطاً إليها، فعلى مرأى منه كان يُسلخ أسير من جلده، ويُترك لأيام يحتضر إلى أن يفرغ دمه، برغم كونه وشى حتى بأخته.. المتزوجة بشرطيّ!
90
كم مرّة تماسك كي لاينهار أو يُغمى عليه خشية ألا يستيقظ أبداً. فلا مكان بين القتلة لضعيف. لكنه الآن وقد نجا، انهارت قواه تماماً، يعيش مع أخته وأمه مشلول الإرادة والتفكير،متشرّداً بين القيم المتناقضة. لاتكف أمه عن ضمه والبكاء. لقد بكت مذ مضى، وتبكي الآن لأنه عاد. وهو كّلما خلا إلى نفسه بكى. قاوم دمعه عامين، لكنه الآن استعاد حقه في البكاء، فهو لايغفر لنفسه ما سبّب للجميع من أذى، ولايدرى ماذا عليه أن يفعل لإسعاد أمه. هل يواصل الدراسة؟ هل يعمل؟ هل يتزوّج؟ هل يغادر أم يبقى؟ وإن غادر فكيف يتركهما ويمضي؟ وإذا انتقلوا جميعاً للعيش في الشام كما تريد أمّه، فمن أين لهم المال؟
لو كان أميراً من أمراء الموت، لربّما فُتحت له أبواب الرزق، وقُدّمت له مساعدات على قدر مقام سيفه، ولكوفئ على انقلابه على فتاواه الأولى بإصدار فتاوى جديدة تحرّم على من لا يزالون في الجبال مواصلة الجهاد. لكنه ليس أميراً، ولا يتحكم في سرايا الموت، ولا في كتائب القتال. هو مازال غير مصدّق أنه استعاد حياته. ثم إنّ ((إخوته)) الأمراء ليسوا معنّيين بأمره، هم مشغولون الآن بتجارتهم، بعد أن تاجروا به وبغيره.
عمّار التحق بالجبال بعده، ونزل منها قبله. كان أميراً هناك.. ووجده أميراً هنا. يستمتع بحقه في الحياة بعد أن انتزع من الآخرين هذا الحقّ. يملك الآن تجارة مزدهرة، إلى حدّ مثير للعجب. إن سألته كيف اكتسبها، أجابك بما تفهم منه أنّه جدير بالربح، وأنّه لايليق بك إلّا الخسارة، لأنّ الله ليس معك. هو معه. له العناية الإلهّية، لذا تجارته
91
مباركة، ومكاسبه حلال، وعليك أن تستنتج أنّك ملعون، ومستثنى من رحمة الله، برغم كونك مؤمناً، ومحسناً، وتخاف الله، وماقتلت نفساً بغير حقّ.
سيقول لك كلّ هذا باللغة العربيّة الفصحى، التي لا يتخاطب ((أصحاب البركات)) إلّا بها، لأنّها لغة أهل الجنّة. ولا تدري كيف تردّ عليه وأنت في جحيمك، تركت جحيم الموت، لتجد جحيم الحياة في انتظارك.
بالنسبة إلى علاء، لقد طُرد من الجنّة الأرضيّة يوم فقد الحبّ. لعلّها الغيرة، وذلك العشق المتطرّف رغبة في استحواذه على الحبيب، حدّ فقدانه في نهاية المطاف.
كانت هدى قد أنهت دراستها قبله، بحكم تخصّصها في الصحافة. لم يتقبّل فكرة انتقالها للعيش في الجزائر. وما كانت هي جاهزة للتنازل عن فرصة قد لا تتكرّر، في العمل مقدّمة أخبار في التلفزيون. ما إن غادرت إلى العاصمة، حتى غادر هو إلى الجبال. ربما أراد أن يقاصصها فقاصص نفسه بها، وهو يلقي بنفسه في التهلكة هرباً من عذاب فراقها.
حيث كان انقطعت أخبارها عنه. وهو الآن يودّ أن يعرف من بعيد، ماحلّ بها منذ سنتين إلى اليوم، لايريد أن تراه على ماهو عليه من بؤس المظهر. يحتاج إلى بعض الوقت كي يستعيد ما فقد من وسامته وصحته.
اتّصل بأخيها، فهو صديقه وزميل سابق له في الجامعة. سعد عندما سمع صوت ندير يردّ على الهاتف. مذ عاد وهو غير مصدّق،
92
أن يردّ أحدهم على رقم هاتفي في حوزته. ما أدراه بما حلّ بالناس في غيبته!
اتفقا على أن يلتقيا. تجمل له ما استطاع، كما لو كان يتجمل لهدى، فهو يتوقع أن ينقل لها أخباره. لكنه وجد نفسه أكثر أناقة منه.
كان ندير في السابق سيّد التأنّق والبهجة. كأنه قطع عهداً على نفسه ألا يحزن. وكان هذا أول ماشدّه إليه. فقد كانا منخرطين معاً في حزب الحياة. ندير يحفظ آخر الأغاني الأجنبيّة، ويدري بآخر التقنيات. يحرم نفسه من كماليّات، ليشتري آخر جهاز تكنولوجي.. وأول جهاز كمبيوتر يدخل البلاد. هو دائماً أمام شاشة بحكم دراسته في مجال المعلوماتية. إنه خرّيج الحياة الافتراضيّة!
حاولا أن يستعيدا روح دعابتهما السابقة.
قال ندير:
-واش.. مازلت حي؟
رد علاء بالسخرية نفسها:
-وأنت مازلت في ((la planete)) متاعنا؟ حسبتك بدّلت المجرّة!
-أنا في المجاري ياخو.. أنت على الأقلّ كنت في الجبْل، عندكم الأكسجين فوق.. هنْا نشّفولنا حتى الهْوا. يمكن يكونوا يبيعوا فيه بـ((الدوفيز)).. كل شيء يتباع بالعملة الصعبة غير إحنا اللي رخصنا!
-وش راك تدير هاذ الأيّامات؟
ضحك ندير. لا أحد سأله ماذا يفعل هذه الأيام، فأن تبقى على قيد الحياة في حد ذاته فعل. الناس يسألون أما زال فلان حياً، لا ماذا يفعل!
93
ردّ بتهكّم: - ما اندير والُو.راني اندور ..مثل رواية مالك حدّاد((الاصفارتدور حول نفسها))راني هاك ذاك اندور .وإنت واش مطلعك للجبل وإلا هبلت يا راجل؟!
ردّ علاء كما ليبرّر حماقته:
- ما على باليش واش صار لي كنت كاره حياتي !
- يا خويا إذا كاره حياتك إقطع البحَر مش تطلع للجبل ..عندك على الآقل احتمال توصل للجنة ..وتعيش في فرنسا والا إسبانيا تاكل كل اليوم ((لابايلا)).
ردّ علاء بسخرية سوداء :
- والله يأكلك الحوت قبل ماتاكل ((لابايلا))!
- ياكُلني الحوت ولا ياكُلني الدود ..
الندير يتكلم بقهر شابّ تخرّج ولم يجد وظيفة منذ سنتين حتماً هو يقول كلاماً غير مقتنع به تماماً.إنه يعاني من حالة خذلان ،ذهبت به من التطرف في البهجة الى التطرف في الخيبة .
راح علاء يقترب من الموضوع الذي يعنيه ،سأله:
- أنا قلت تكون تزوجّت في غيابي ..
رد ندير ساخراً:
نتزوّج ؟وعلاش هبلت !يا ربّي نسلّك راسي ..وين رايحين يهربوا البنات..راهم أكثر من ثلاثة ملايين بايرة في الجزائر! ..
كانت هذه أوّل مرّة يسمعه يتكلّم بهذه الطريقة.لعلّ إحداهن ضحكت عليه ،أو تخلّت عنه.ماذا عساها تفعل مع شاب لا مستقبل له؟
طرح أخيراً سؤاله الآهمّ:
94
- وهدى واش راهي؟
- هدى تقول حدّ دعا عليها دعوة شرّ !يرحم باباك ،كاين واحد يروح يعمل في التلفزيون والارهابيين كلّ أسبوع يقتلوا صحافي؟!يا خويا تحب الأضواء بزّاف..((مضروبة عليها))..خلّيها تموت تحت الأضواء !
كان يريد أن يسأله((هل تزوجت او هل في حياتها أحد؟)) لكنّه استنتج أنّها لم تتزوّج بعد.أمّا السؤال الثاني فلا أحد يمكن أن يجيب عنه سواها.كم يشتهي أن يعرف أما زالت تحبّه ؟هل تذكره ؟هل تشتاقه؟اكتفى بسؤاله عن مشاريعه .
-واش ناوي اديّر؟
-ناوي على الهربة ..ما يسلكني غير البْحَر.كاين بزاف راحوا وراهم في اسبانيا لاباس عليهم .
لا مجال لمناقشته .إنه لا يرتاب في البحر .يثق به أكثر من الوطن الذي سيتركه خلفه.سيبحر ويعود.بشباك فارغة للأحلام !
عاد علاء من ذلك اللقاء سعيداً،لقد بقي له على الاقل صديق واحد.ففي محنة كهذه تكتشف الناس.
مذ عودته ،خسر كلّ صداقته السابقة .أحياناً يعذرهم،بالنسبة لهم هو إرهابي .أمّا بالنسبة للإرهابيين ،فهو ليس جديراً بهذا((الجاه)).إن لم يقتلوه ،فلأنهم كانوافي حاجة إليه ليس أكثر .كانوا يعانون من أزمة أطباء لمعالجة جرحاهم .حدث أن خطفوا طبيبا وجاوؤء به الى مخابهم ..لكنهم أعدموه بعد ذلك،اثناء محاولته الفرار.ما زال غير مصدّق أنّ من ظلّوا هناك سمحوا له بالنزول مع ((فوج التائبين)).لآخر
95
لحظة توقّع أن يطلق أحدهم النار عليه، فربّما دلّ الأمن على مخابئهم.. إن رجلاً يقتل يوماً أحداً لا بدّ أن يُقتل!
أعطاه ذلك الموعد الأمل في استعادة هُدى. لا يتوقّع أن تكون نسيته. على الأقلّ إكراماً للستّة أشهر التي قضاها في السجن ثمناً لحبّها. ما كان ليدرى لولا أنها من أخبرته بذلك عندما أطلق سراحه، بعد اعتقاله في حملة قام بها رجال الأمن على الإسلاميين في جامعة قسنطينة. فقد جاء أحدهم وقال لها شامتاً ((ماخليتكش تفرحي بيه)). لاحقاً فهمت أنّه وشى به زوراً حتى يُعتقل أيضاً. كان الشابّ يحبّها ولا يريد أثناء وجوده في السجن أن يتركها لغيره!
ما زال يُباهي بينه وبين نفسه أنّه دخل السجون بسبب شبهة عشقيّة غير معلنة! هل كانوا سيضربونه ويعذّبونه لو عرفوا أنّه مجرد عاشق ضحية مكيدة شاب لا ضمير له، لم تمنعه لحيته من الكيد لإنسان بريء؟ لكنّهم تمادوا، وهو الذي لم يتعاطف يوماً مع الإسلاميين، لفرط ما رآهم يُعذبون على أيدي الجيش، غادر السجن وهو إسلامي.
الآن وقد خبر كل شيء، يحتاج إلى إعادة إعمار روحه مما حل بها من خراب.
حتى الكلمات تتطلب منه إعادة نظر: ((الوطن))، ((الشهيد))، ((القتيل))، ((الضحيّة))، ((الجيش))، ((الحقيقة))، ((الإرهاب))، ((الإسلام))، ((الجهاد))، ((الثورة))، ((المؤامرة))،((الكفّار)): أتعبته اللغة. أثقلته. يريد هواءً نظيفاً لا لغة فيه، لا فصحى ولا فصاحة ولا مزايدات.
كلمات عادّية، لاتنتهي بفتحةٍ أو ضمّةٍ أو كسرةٍ.. بل بسكون.
يريد الصمت.
96
عبثاً كانت هالة وأمّه تحاولان استدراجه للبوح بما عاشه خلال سنتي غيابه. كان دائم التهرّب من الكلام. لا يحضر إلا بتوقيت الأخبار المسائيّة.
كلتاهما تعرفان أنّه ينتظر أن تطلّ هدى ليس أكثر. فعندما لا تكون هي من يقدّم الأخبار، يغادر عائداً إلى غرفته.
يتأمّلها.. يتفحّصها.. يقرأ أخبارها أثناء قراءتها للأخبار. يصل كلّ مرةّ إلى نتائج معاكسة، مرّة أنّها سعيدة وبالتالي يوجد في حياتها رجل. مرّة تبدو له يائسة ومحطّمة، ولا يفهم لماذا تصر إذاً على البقاء أمام الكاميرا.. لتعلن كل يوم اغتيال صحافي. لقد تجاوز عدد الصحافيين والمثقفين الذين اغتيلوا السبعين، وهي مازالت تنعى كل يوم أحدهم.. وماذا لو كانت هي الرقم التالي؟
كانت هذه الفكرة ترعبه أكثر. مايخشاه أن يحدث لها شيء ولا يراها أبداً. هل يُعقل أن يغيبها الموت؟ أن يغطي التراب عينيها الجميلتين، وجسدها الذي لم يلمسه يوماً.. وشفتيها اللتين هما كلّ ماقبَّل فيها؟
يقرر ككلّ مرة أن يطلبها في الغد.
ثم تكون الكلمة الأخيرة لعزّة نفسه. فهي تدري أنّه عاد، وبإمكانها أن تطلبه أن شاءت، لكنّها منذ شهرين لم تفعل.
كانت كوابيس موتها تلاحقه. لا يتوقّف عن تصور كل الاحتمالات التي يمكنهم اغتيالها بها، وهي متّجهة إلى التلفزيون أو عائدة منه مساءً. يحلم أنه جاثمٌ يلثم جسدها باكياً ومتضرعاً لله كي لا يأخذها منه. فلا شيء، لاشيء سواها يريده في هذه الدنيا.
97
ذات مساء، وهو يشاهدها على الشاشة، خطر بذهنه أن يهاتفها على المحطّة، حال انتهاء الأخبار. يريد أن يفاجئها!
كان المشكل وجود هاتف البيت في الصالون، وهو لايريد أن يتحدّث إليها على مسمع من هالة وأمّه. قرر أن ينزل ليطلبها من مقصورة هاتفية غير بعيدة من البيت. تذرّع بالنزول لشراء علبة سجائر.
في المقصورة، أخرج من جيبه رقم هاتف التلفزيون الذي أحضره قبل أيّام، مذ بدأت فكرة الاتصال ها تراوده. ظلّ رقم البدالة يدقّ لدقائق دون أن يرفعه أحد. ثم أخيراً ردّ صوت رجّالي. وجد نفسه يقول بارتباك:
- أود الحديث إلى الآنسة هدى. هل يمكن لو سمحت أن تخبرها أن علاء على الخط..
بدا الرجل على الطرف الآخر من الخط على حذر.. ردّ بعصبيّة:
- اطلبها غداً إن شئت!
راح يلحّ:
-أود أن أتحدث إليها الآن في أمر مهمّ.. ليتك فقط تخبرها باسمي. ردّ الرجل:
-ولكنها مازالت على البلاتو، عليك أن تنتظر بضع دقائق وربّما أكثر.
ردّ مستجدياً:
-سأنتظر.. لكن وراسك لاتنساني ياخويا.
قال الرجل:
-ذكّرني باسمك.
98
- علاء.. علاء الوافي.. إنّي أحدثّك من الشارع، بالله لاتدعني أنتظر طويلاً. مرّت أكثر من عشر دقائق. عاد الرجل ليخبره أنّ هدى أنهت أثناء ذلك بثها وغادرت على عجل، وأنه ما استطاع اللحاق بها.
لكن.. كان الخطّ مفتوحاً ولا أحد يردّ، سوى صوت طلقات رصاصٍ اخترق دويهّا سماعة المقصورة.
في اليوم التالي في انتظار الطائرة العائدة بها إلى بيروت، كان لها متسع من الوقت لتستعيد تلك التفاصيل كاملة، وتحزن مجدداً لأنه في سنة 2001 ما كان الهاتف الجوّال في متناول الناس في الجزائر، وإلا لما نزل علاء ليلاً إلى تلك المقصورة لطلب هدى. كيف له أن يدري أنه كان يتصل بالرقم الهاتفي للموت؟
نزلت دموعها. تلك التي احتفظت بها في سهرة البارحة. لربّما غيومها كانت تبحث عن ذريعة كي تهطل. لعلّه النجاح المفضي إلى الكآبة، أو لعّله الفقدان، فقدان كل رجالها، بمن فيهم ذلك الذي منحها بهجةً كاذبة، واختفى في هذا المطار نفسه الذي واعدها فيه يوم وصولها قبل أسبوع.
ظلت حتّى آخر لحظة تتوقع اتصالاً منه. الآن فقط بدأت تصدّق قلبها الذي يوشوشها أنّها لن تراه أبداً، وأنّ قدرها ألا تكون يوماً سعيدة. سعادتها كانت دائماً سريعة العطب، كأجنحة الفراشات. كلما حاولت الإمساك بألوانها، انتهت بهجتها غباراً بين أصابعها.
الحركة الثانية
((من أيّ نجوم أتينا لنلتقي أخيراً؟))
نيتشه لحظة رأى ((لو))أوّل مرة
كانت قد مرّت بضعة أسابيع على عودتها من باريس حين وصلتها دعوة لإقامة حفلٍ في القاهرة. راحت تفاوض والدتها للسماح لها بالسفر إلى مصر، وكأنها تفاوضها على قضيّة الشرق الأوسط. ففي القاهرة ليس لها أهل كما في باريس، وما أدرى والدتها في أيّ وسط ستكون؟
في الواقع، هي لاتريدها أن تغنّي. تخشى عليها من كلّ شيء. لو استطاعت لأبقتها في البيت. تراها غزالة يتحينّون نحرها ليفوزوا بمسكها.
أما هي فتعتقد أنّ غزالاً في البيت ليس غزالاً بل دجاجة. لقد خُلقت الغزلان لتركض في البراري، لا لتختبئ، فالخوف من الموت.. موتٌ قد يمتد مدى الحياة.
منذ أشهر وهي تدرس الموسيقى، والآن تشعر أنّ بإمكانها مواجهة أصعب جمهور: الجمهور المصري. أيّ مغامرة أن تقبل بتقديم حفل القاهرة!
104
عرضت على والدتها أن ترافقها، قصد طمأنتها، وتغيير مزاجها قليلاً. لكنّها، كما توقّعت، رفضت عرضها، وزادت بتذمّر:
-مَنّي مرتاحة لّسفرتك لَمصر ولأجوائها الفنّيّة.. ولا بَدّي مصاري من حفلاتك.. بفضّل آكل منقوشة جبنة بكرامة!
راحت ككلّ مرة تدافع عن نفسها:
-كرامتنا مصونة يا إمّي.. وأنا ما أكسب كثير من هاي الحفلات.. حتّى هاذ الحفل حفل خيري لَنجمّع مبلغ لإنشاء قسم طبّي للأطفال المرضى بالسرطان..
استطاعت بهذه الكلمات أن تكسب رضاها، وتسافر وقد فازت بمباركتها وخاصة أن نجلاء اقترحت مرافقتها، فالسفرة قصيرة، وهي لم تزر القاهرة من قبل، وكان هذا أجمل عرض، نظراً لما كان ينتظرها من مفاجآت.
لم يكن يفصلها عن الحفل سوى ساعات، حين بلغها أن احدهم اشترى قبل أيّام كلّ البطاقات.
في البدئ لم تُصدّق.
صحيح أنّه حفل خيري، لكن كان في إمكانه أن يكتفي بشراء كمّيّة من التذاكر، والتبرّع ببقيّة المبلغ، احترماً لمن يودّ أن يحضرها. مامعنى أن يشتري أحد بطاقات قاعة كاملة، سوى اعتقاده أنّه يساوي الحضور جميعاً، لأنّه يملك أكثر ممّا يملكون؟ وبأي حق يحرم الناس حضور الحفل، فقط لأنه لايدري ماذا يفعل بماله، ويبحث عن وسيلة تؤمّن له إعلاناً في الجرائد كفاعل خير؟
105
راودتها فكرة رفض الغناء كي تلقّن هذا الرجل درساً في التواضع. غير أنّ متعهّد الحفل أبلغها بعد نقاش منطقي، أنّ عليها في هذه الحالة أن تدفع مايتكبّده من خسائر.
لأوّل مرّة شعرت بأنّ ما في جيبها لايغطّي منسوب كرامتها.
-ومن هو هذا الرجل؟
لقد حضر أحدهم ودفع المبلغ باسم إحدى الشركات، ربّما كان أحد رجاله.. ماترك لي مجالاً للسؤال.
قالت بتهكم:
-لعلّه شيخ قبيلة ويحتاج إلى قاعة كاملة.
-إن كان أميراً فلن يحضر لا هو ولا قبيلته!
-معقول.. فوق هذا ألّا يحضر أبداً؟
-مايعني الأثرياء هو أن يحضر اسمهم. في النهاية، هذا حفل خيري، المهّم أنّنا بعنا كلّ البطاقات.
كان الغناء بالنسبة إليها ضرباً من الكرامة، ولم يفارقها الإحساس بأنّ الرجل يهين سخاءها بثرائه.
لقد تنازلت عن دخلها من هذا الحفل، برغم حاجتها إلى المال. واشترى هو بطاقات قاعة بما فاض من ماله، وسيبدو الآن الأكثر كرماً وإنسانيّة!
عاشت الساعتين السابقتين للحفل بتوتّر عالٍ، في انتظار أن يُرفع الستار عن جواب حيرّ الجميع لغزه: من يكون هذا الرجل؟
كانت تزداد عصبيّة كلّما اقترب الحفل، من دون أن يكون في القاعة أيّ وجود لتلك الحركة التي تسبق الحفلات عادةً.
ماذا لو لم يحضر؟
106
بدأ مزاجها يسوء. قررّت، تفادياً للمفاجآت، أن تُخبر أعضاء الفرقة أنّهم في انتظار شخص واحد..
سأل أحد العازفين:
-ولو حضرتو ما جاشي نعمل إيه؟
ردّ الآخر:
-ما لنا بيه.. يجي وإلّا ما يجيش إحنا شغاّلين.
-يعني عاوزنا نعزف لقاعة مافيهاش حد!
-ومالو.. دي أمّ كلثوم كلّها وغنّت للكراسي.. ثلاث ساعات وهي تغنّي في فرح ما حضروش عريس ولا عروس ولا معازيم..
-إزاي بقى ياعم!ّ؟ هي تجننّت؟!
-أبوها هو اللي تجّنن.. سبع ساعات وهُمّا على الحُمار جايين من الريف عشان أمّ كلثوم تغنّي في الجوازة دي.. ولمّا وصلوا لقوا السّرادق جاهز والكلوبات ضاوية والكراسي مصفوفة بس ما كانش فيه حد.. ولا حتّى العريس! كان الجّو وحش قوي وماحدّش عاوز يطلع من بيتو. هم كانوا حيسمعوا مين يعني؟ صالح عبد الحيّ ولا عبد اللطيف البّنا؟ فراحوا مأجّلين الفرح. لكن كانو حيقولولها الزاي يعني، ما هو وقتها ماكانش فيه تلفونات زيّ دلوقت.
راح العازف يحكي بقيّة القصّة بتفاصيلها وكأنّه عايشها.
سأله الثاني غير مصدقّ:
-عرفت القصّة دي منين؟
كتبتها الستّ في مذكّراتها.. دي بتنكّت وهي بتحكيها. بتقول: انبسطت قوي يوميها. أصل دي كانت أوّل مرّة أغنّي بيها في الريف من غير ما المعازيم يكسّروا الكراسي على راس بعض في الآخر،
107
وبدل تلات ساعات خناقة ونص ساعة غناء غنيّت تلات ساعات ولا قاطعنيش حدّ!
كانت تستمع إلى حوارات العازفين بإعجاب من لم يعتد أن يرى في كلّ مصيبة مناسبة لإطلاق نكتة. كانوا يضحكون ويتمازحون ووحدها يشلّها التوتّر. إحساسُ ما يقول لها أن لا أحد سيأتي، وربّما سيكون عليها أن تغّني للكراسي!
كذب حدسها.
كانت الساعة التاسعة تماماً عندما جاء من يُخبرها أن بإمكانها أن تبدأ الحفل. وجدت في احترام الوقت المعلن ما يُواسي كرامتها. لقد حضر السّيد على الوقت إذاً، وهذا جميل ونادر في القاهرة.
بدأت الفرقة العزف تمهيداً لظهورها على المسرح، ثم أطلّت كبجعة سوداء داخل ثوب أسود من الموسلين، لكأنّها ((ماريّا كالاس)) في ثوب أوبّرالي، لا يزيّنه إلّا جيدها العاري وشعر أسود مرفوع إلى أعلى. إنّها الفتنة في بساطتها العصيّة. اختارت هذه الطلةّ لتبهر بها القاهرة، لكنّها تجمّدت على المنّصة وهي تتأمل المشهد الغريب.
بالتزامن مع ظهورها، كان رجل أنيق المظهر يدخل القاعة من البوابّة الرئيسيّة، في أبّهة واضحة، محاطاً بمرافقيه. توقّعت أن يأخذوا مكانهم جواره، ولكنّها استنتجت بعد ذلك، وهو يعطي أحدهم معطفه ويناوله ورقةً نقديّة، أنّهم موظّفون في المسرح حضروا لاستقباله ليس أكثر.
أخذ الرجل مكانه يمين المسرح، في منتصف الصفّ الرابع. حيّاها بحركة من رأسه وبدا جاهزاً لسماعها.
108
لم تعلم هل كان يجب عليها أن تُحييّه قبل الشروع في الغناء، وهل تتوجّه بكلامها إلى ((الجمهور الكريم)) أم إلى ((السيّد الكريم)) الذي غطّى بكرمه كلّ المقاعد الشاغرة!
أتشكره على سخائه؟ أم تقول ما يؤلمه وجعله يغادر القاعة، فيكون هو من أخلّ بالعقد؟ حضرها قول قرأته يوماً ((بأموالك بإمكانك ان تشتري ملايين الأمتار من الأراضي، لكنّك في النهاية لن تستقرّ بجسدك إلّا داخل متر ونصف من قشرة كلّ هذه الأمتار)). تمنّت لو قالت له إنّه اشترى بماله كلّ هذه المقاعد، لكنّه لا يستطيع أن يجلس على أكثر من مقعد، وفي هذا ردّ اعتبار للكراسي الشاغرة.
منذ البدء، أخذت قراراً بألّا تحيّيه قبل أن تشرع في الغناء. ما دام هو نفسه لم يُحيَّها، ولا تقدّم من المنصّة ليسلّم عليها، على الأقل بصفته الممثّل عن كلّ القاعة، والنائب عن كلّ الغائبيين.
ستغنّي لمدةّ ساعة ونصف الساعة فقط. ستعطيه بالظبط على قدر مادفع ولن تسأله ماذا يُفضّل أن يسمع، هل سألها هو أكانت تفضّل أن تغنّي لقاعة حاشدة بالحضور.. أم فارغة الإ منه!
حاولت أن تضبط مشاعرها، أن تظلّ على هدوئها، أن تُغني للكراسي الشاغرة، كما لو كانت ملأى، لكن في نهاية كلّ أغنية، كان تصفيق اليدين الوحيدتين يطيح أوهامها.
التصفيق كما التصويت، لا يكون إلاّ عن شخص واحد. لا يمكن أن تُدلي بأكثر من صوت، ولا أن تصفّق بأكثر من يدين مهما حاولت. كيوم ذهب والدها إلى العاصمة لحضور حفل السيد مكاوي، ولسوء التنظيم لم يسمع بالحفل سوى قلة من الناس. فراح، عن حياء، يصفق كثيراً بعد كل أغنية، ليقنع المغني الضرير بأن الحضور أكثر ممّا هو في القاعة. لكنّ الأعمى يرى بأذنيه، ولا يحتاج إلى عينيه إلّا للبكاء. لذا لم يلحظ أحد حزنه، خلف نظّارته السوداء.
109
فليكن، سُتغنّي لهذا الغريب الجالس بين ثقته وارتباكها، بين عتمته وضوئها. فلقد اشترى، لمدّة زمنيّة، صوتها.. لا حبالها الصوتيّة.
أثناء غنائها، لم تتوقّف عن مدّ حديث مع نفسها، فالموقف غريب، ولا تذكر أنّها سمعت بمطربة غنت لقاعة ((مزدحمة)) برجل واحد. أمّ كلثوم غنّت لقاعة فارغة إلّا من الكراسي وهذا أهون. ما دام والدها ولا أحد غيره من قرر ذلك. قصد صاحب الفرح ليعيد إليه الخمسين قرشاً التي تقاضاها. لكن الرجل رفض استعادتها شفقة عليهم ((ياسيدي ماعليهش اعتبرها زكاة)) قالها وانصرف.
لكنّ أباها كان عزيز النفس لا يقبل الصدقات. سألته بحيرة فتاة تأتمر بأوامر أبيها:
-أعمل إيه؟
-لازم تغنّي!
-أغنّي لمين؟ مافيش ولا واحد موجود أصلاً عشان أغني له!
-مش مهّم. لازم نخلّص ضميرنا!
أُسقط بيدها. راحت المسكينة تغني لقاعة ليس فيها أحد.
الفرق بينهما وبين أمّ كلثوم، هو هذا الواحد، الذي تفصلها عنه مسافة صفوف، وأسئلة، وعلامات استفهام بعدد المقاعد الشاغرة.
ما الذي جاء به إلى الصفّ الرابع؟ ولماذا تنازل عن ثلاثة صفوف مادام همّه أن يكون الأوّل؟
عادةً يحتاج المغنّي أو الخطيب، من موقع إطلالته على القاعة، إلى أن يتوجّه إلى وجه واحد، لا يعرفه بالضرورة، لكنّه يرتاح إليه.
110
وجه يختصر كلّ الحضور، يقرأ على صفحاته أثر مايؤديّه. لكن كيف التعامل مع وجه رجل يُلغي القاعة، ولا يترك بحضوره الرصين الصامت الخالي من أيّ ردّة فعل، أيّ احتمال للتواصل.
وماذا لو كان مهووساً أو قاتلاً؟ هي دائماً تفكرّ في الاحتمالات الأسوأ. قرأت مرّة أنّ أحدهم في إسبانيا، قام من مقعده أثناء حفل غنائي، وأطلق النار على المغني وهو يؤدي أغنية عاطفية، فأرداه قتيلاً. كانت الأغنية ترتبط في ذاكرته بقصة حبّ فاشلة!
ثمّ، ألم يحدث في مصر أن قتل رجال أعمال حبيباتهن المطربات، إثر نوبة جنون؟
ماتعتقده، هو أنّه يريد أن يصنع الحدث بضوئه. لكنّها الأقوى ضوءاً منه، إنّها تغنّي على النقطة الأكثر ارتفاعاً، كما يقف تمثال على قاعدة، وكما كانت تقف على المصطبة المقابلة لتلاميذها. إنها هنا أيضاً المعلمة وسيّدة الصفّ.
استدركت، لكنّها هناك كانت تعرف الوجوه المقابلة لها واحداً واحداُ. تعرف اسم كلّ واحد وأين يجلس، فهي التي اختارت له مقعده، وبإمكانها أن تطرده من الصفّ إن شاءت.
أيّهما الأقوى إذاً؟ هي في مقامها العالي أم هو في مجلسه الشاسع؟
أفكار كثيرة عبرتها على مدى ساعتين. كانت تُغنّي فيها تارةً لعاشقها وطوراً لقاتلها، ومرّة لرجل تحتقره، وأخرى لرجل لم تستطع أن تمنع نفسها من الإعجاب به. بتلك المسافة التي وضعها بينه وبينها، ليوهمها بكثرته، وليمنح صوتها مسافة الشدو طليقاً. ولأنّها لم تستطع أن تتبين ملامحه تماماً، كانت تستعجل نهاية الحفل عساه يحضر ليعرفها بنفسه.
111
تركت أغنياتها الأجمل للختام، بعدما تحسن مزاجها أغنيةً بعد أخرى، وبدأت هي نفسها تتواطأ مع جماليّة الموقف وشاعريّة الغناء مصحوبة بفرقة كاملة، في قاعة فارغة.. إلّا من رجل واحد!
انحنت انحناءه كاملة، رداً على وقوفه عند انتهاء الحفل، ووقفت الفرقة خلفها تحييّه. كان مشهداً غريباً وآسراً، في أحاسيسه المجنونة والفريدة. كاد قلبها أن يتوقّف أكثر من مرّة، في انتظار الدقيقة التي سيتقّدم فيها منها.
ماذا تراه سيقول لها؟ وبماذا ستردّ عليه؟ أتشكره؟ وعلام تشكره؟ ام تسأله لماذا؟ ومن يكون؟ لا بل ستشكره فقط. وغداً ستعرف من الجرائد من يكون. لتدعه يعتقد أنّ اسمه لايثير فضولها. سيقتله الأمر قهراً. أن تتحاشى سؤاله عن اسمه، كأن تترفع عن معرفة حدود سطوته، هل ثمّة إهانة أكبر!
أثناء ذلك، جاء أحد موظّفي المسرح، وقدم لها باقة التوليب نفسها. لم تشغلها المفاجأة. منذ أشهر وهي تتلقى الورود نفسها في كلّ حفل تقّدمه.
لم يكن يشغلها غير هذا الرجل الواقف على بعد خطوات منها. لكن قلبها خفق عندما حضرت فتاة إلى المنصّة، لتقدم لها باقة ورود حمراء. استنتجت من تنسيقها وضخامتها أنّها منه. عبرها شعور لذيذ.. أمدّت قائد الفرقة الذي كان واقفاً خلفها بباقة التوليب، وحضنت بذراعها اليسرى الورود الحمراء امتناناً منها لصاحبها.
112
لكن الرجل اكتفى بالرد عليها ملوحاً بيده، تحية شكر ووداع في آن واحد، وتركها مذهولة، وهي تراه يغادر القاعة، مطوَقاً بالموظّفين الطامعين في إكراميّة.
أيّ رجل هذا، ومن يخال نفسه؟!
كيف استطاع أن يجعلها تُغنّي له على مدى ساعتين، ثم يوليها ظهره ويغادر القاعة؟ لم يصافحها. لم يلمس يدها. لم يلمس حتى سمعها بكلمة شكر. رفع يده يُحييها من بعيد ومضى. لم يمنحها فرصة أن تقول كلمة.. أو لا تقول. أن تطرح سؤالاً أو لا تطرح. إنه إمعان في الإهانة. حتى وروده الحمراء، كانت خرساء وكتومة مثله، لا ترافقها أي بطاقة شكر. أهو أكبر من أن يضع اسمه على بطاقة؟ أم يراها أصغر من أن تكون أهلاً لبضع كلمات بخطّ يده.
غادرت المسرح إلى مقصورتها مدمّرة. خلعت فستان السهرة على عجل. لم يكن هناك أحد ليهنّئها أو ليشكرها. كل إدارة المسرح وموظّفيه كانوا في وداع ((السيد الكريم)).
وحدها نجلاء شعرت بحزنها. قالت وهي تساعدها على جمع أشيائها: -كنت رائعة..
وعندما لم تسمع جواباً واصلت:
-أفهم أنّ الأمر ما كان سهلاً، ولكنّها تجربة جميلة ومثيرة.. الغناء لشخص واحد!
ردت:
-ما كان شخصاً.. إنَّ من يحجز قاعة بأكملها ليستمع وحده إلى حفل، يخال نفسه إلهاً. لذا كان ضرباً من الكفر أن أقبل الغناء له.
113
- لا تضّخمي الأشياء، أنت يا عزيزتي مفرطة في عزّة النفس.
-هذا أفضل من أن أفرّط بنفسي. ألا ترين في تصرّف هذا الرجل غطرسة واضحة؟ حتى الورود التي بعث لي بها ليست مرفقة ببطاقة كما تقتضي اللياقة.
-أكنت تريدينه أن يجثو عند قدميك؟ إن الورود الحمراء لاتحتاج إلى بطاقة. من الواضح أنه متيّم، يكفي مادفع ليستمع وحده إليك، هذا تكريم لم تحظّ به على علمي مطربة عربيّة.
-تسمّين هذا تكريماً؟!
كانتا تهمّان بالمغادرة عندما صادفتا قائد الفرقة. قال وهو يمسك بباقة التوليب:
-مستني حضرتك عشان أعطيك باقة الورود اللي سبتيها معايا. بالمناسبة، إيه رأيك في الحفل؟
قالت وهي تأخذ منه الباقة:
-أيّ حفل؟ الحفل يحتاج إلى احتفاليّة أي إلى طرفين. ما كان في القاعة نبض حتّى نسّميه حفلاً!
أمدّته بسلّة الورود الحمراء، كي تتخلص من أي شيء له علاقة بذلك الرجل، قالت:
- خذ هذه الورود لزوجتك، ستسعد بها.
ردّ الرجل مبتهجاً:
-متشكرين قوي يا هانم.
أخذت السياّرة إلى الفندق. تركت نجلاء تحمل باقة التوليب، تكفّلت هي بحمل مرارتها.
114
حال وصولها إلى جناحها غيّرت ثيابها، وجلست مستندة إلى ظهر السرير. كانت على عجل أن تجلس إلى نفسها قليلاً تستعيد ما عاشته من هزّات نفسيّة في سهرة واحدة، عساها تفهم ما حّل بها. لو كانت وحدها لبكت الآن، لكن نجلاء، في اجتياحها لها، تفسد عليها آخر مابقي لها من سعادة: حزنها.
طلبت نجلاء من خدمة الغرف إحضار مزهريّة ثم سألتها:
-هل أطلب لك شيئاً للعشاء؟
ردّت:
-وجبة الإهانة كانت دسمة حدّ إفقادي الشهّية.
-يا الله كم أنت عنيدة ومكابرة، تدرين أكثر ماتحتاجين إليهِا: إعادة تأهيل نفسي كي تتأقلمي مع هذا العالم، لأنّ العالم يا عزيزتي لن يقوم بجهد التأقلم معك! سأطلب لي شيئاً، إنّي جائعة.. بإمكانك أن تقدّمي لي عشاءً فاخراً الليلة أليس كذلك؟.. مادمت أنت المشهورة والثرّية بيننا!
-أنا دائماً ثريّة. اطلبي ماشئت!
-بالمناسبة، هل عرفت كم دفع هذا الرجل ثمن الحفل؟
-لا أريد أن أعرف!
كانت نجلاء تهمّ بوضع الورود في المزهريّة عندما عثرت على بطاقة صغيرة ملصقة بالباقة، قرأتها ثم صاحت:
-حسناً فعلتِ ألّا تتعشّي الليلة، فأنت مدعوّة للعشاء غداً في مطعم على ظهر مركب عائم في النيل.
انتفضت جالسة. أخذت منها البطاقة.
((هل تقبلين دعوتي غداً للعشاء؟
115
حتماً ستتعرّفين إلىّ هذه المرّة.
أنتظرك عند الثامنة مساءً على مركب الباشا)).
أعادت قراءة البطاقة غير مصدّقة. أيعقل أن يكون قد عاد؟ لقد مّرت أربعة أشهر على عودتها من باريس، وانتهى بها الأمر للاعتقاد أنها لن تراه أبداً. لكنّ الرجال هكذا.. يأتون عندما نكفّ عن انتظارهم، ويعودون عندما يتأكدون أنّنا ماعدنا معنيّات بعودتهم. أسعدها أنها هزمته وأجبرته على كسر قانون لعبته الحمقاء تلك. وجدت في عودته ثأراً لما ألحقه بها الآخر من إهانة. فليكن.. ليدفع رجلٌ عن رجلٍ آخر!
أخفت فرحتها عن نجلاء، قالت:
-كأن مجنوناً واحداً لا يكفي، إنه الرجل الذي يطاردني بباقات التوليب . منذ أشهر لم يُرفق ورده ببطاقة. تدرين.. أوّل باقة بعث لي بها كتب على بطاقتها ((الأسود يليق بك)).
-فهمت لماذا إذاً لم تخلعي الأسود حتّى الآن!
-لا، ليس بسببه. الأسود ((محرمي)) مذ لم يُبق لي الموت محرماً. إنني أُنسب إليه، أشعر أنّه يحميني ويمّيزني عن غيري من المطربات. ثم أنا بطبعي أحبّ الأسود منذ أيّام التعليم، أتذكرين؟
-ومتى توقّفت عن أن تكوني معلّمة؟
-هذه مهنة تطارك كلعنة، حتّى عندما تتخلّصين من الطباشير، واللّوح وتصحيح الامتحانات، تطاردك بالقيم التي حاولت أن تزرعيها على مدى خمس سنوات في أفواج التلاميذ، كما تُزرع أشجار لإيقاف التصحّر. شيء يذكّرك بأنّك كنت يوماً قدوة لهؤلاء الصغار. هالة المعلّمة لاتفارقك. ضوؤها أقوى من نجوميّة الشهرة لأنّه ليس اصطناعياً. إنّه ضوء داخلي.
116
علقّت نجلاء بتهكّم وهي تشرع في الأكل:
-ياسّيدة الضوء الداخلي أبشري، ستشقين بضوئك. ما أدراني، ربّما كان هذا قدرك ماداموا قد سمّوك هالة.. ثم أنا جائعة، أتودّين الانضمام إلىّ أم ستأكلين البطاقة؟!
ضحكت وانضمّت إليها:
-لن آكل البطاقة، لكن أتمنّى لو استطعت التهام الوقت.. بي فضولُ جارف لمعرفة من يكون هذا الرجل.. أم لعلّه يمتحنني هذه المرّة أيضاَ وقد يتركني في المطعم؟
-لا أدري أين تعثرين على مجانينك!
-عندما تقرئين البطاقات التي يرسلها مع الورود تجزمين أنّه شاعر.
-وربما كان صاحب محل للورود ويعمل شاعراً في أوقات فراغه.
-كُفّي عن المزاح. إن مايحيّرني حقاً هو كيف يدري بتواريخ حفلاتي ومواعيد ظهوري على التلفزيون، وكيف يتمكّن من أن يرسل لي وروداً حيثما أكون..
-أيّتها الأمّيّة، لا يحتاج الأمر إلى قارئة فنجان. بإمكانك بالإنترنت أن تعرفي كلّ شيء عن المشاهير: حفلاتهم، تنقّلاتهم.. أمّا الورود فثمّة شركات عالمّية تتكفّل بإرسال باقتك في اليوم نفسه إلى أيّ مكان في العالم، يكفي أن تصفي لهم أي نوع من الورد تريدين، وهذه الباقة ربما يكون بعث بها إليك من أي مكان في العالم.
-أنت على حقّ. لو كان اليوم في القاهرة لدعاني الليلة إلى العشاء. لماذا ينتظر إلى غد؟
-من المؤكد أنّه رجل ثري ليرسل لك وروداً أينما كنت في العالم!
117
- وقد لا يكون ثرياً. الرومانسيّة لا علاقة لها بالإمكانات الماديّة. ربّما كان ألغى بعض مصاريفه الخاصة ليبعث لي بباقات ورد.. أو ليدعوني غداً إلى العشاء في مطعم كبير.
-يا للحماقة.. لا أفهم إصرارك على أنّه غير ثري!
-لأن الأثرياء على عجلة من أمرهم. هم لايملكون طول النفس. يعنيهم الحصول على مايريدون فوراً. في الانتظار إهانة لهم. هم يعانون من جنون العظمة، كهذا الذي حجز قاعة كاملة ولم يشغل إّلا مقعداً واحداً فيها. سترين غداً سيصنع أهمّ خبر في الصحافة المصرية!
-فليكن، هذا لن يزيدك إلّا شهرة.
-بل لن يزيد إلّا من غيرة المطربات مني. صدّقيني، أنا أخاف كيدهنّ وشائعاتهن. لا أريد إلّا الستر.
-الشائعات تُغذّي الضوء ياعزيزتي.
-بل الضوء هو الذي يغذي الشائعات!
***
تهيّأت لموعده دون تبرّج.
وضعت من كلّ شيء أقلّه. ذهبت إليه بسيطة كفراشة السواقي.. وكفراشة تأخّرت. ماتوقعت أن يكون اجتياز شوارع القاهرة في تلك الساعة من المساء، أطول من عمر انتظارها لذلك الموعد.
بين باقته الأولى وباقته الأخيرة، قطعت نصف المسافة إلى الحبّ. لكنّ الطريق بين فندقها والمطعم العائم الذي ينتظرها فيه كان أطول. وحين بلغته فقط، تنبهّت أنّ هذا الرجل الذي يتقن لعبة الغموض، نجح كعادته في استدراجها إلى عتمته.
118
كمن يأخذ قطاراً دون أن يسأل عن وجهته، تأخّر الوقت على الأسئلة. مذ دلفت إلى باب المطعم، أصبحت داخل القاطرة،. ألقت نظرة خجولة على مكان لا يخجل من إشهار فخامته. أعادت النظر على الطاولات الموزّعة بطريقة حميميّة الزبائن ورقيّ المكان. بدا لها المطعم في تعدّد زواياه، متاهة لامرأة مثلها في ارتباكها الأوّل، لا تعرف اسم الرجل الذي جاءت تقابله، ولا تعرف شكله. بدأت تندم على قبولها دعوة، لاتعرف من جاءت تقابل فيها. فكّرت أنّه ربّما لم يحضر بعد، أو أنّه موجود ويريد اختبارها مرّة أخرى.
قرّرت قلب قوانين اللعبة. ستجلس إلى طاولة شاغرة، وليحضر هو إليها مادام يعرفها. فمن غير المعقول لامرأة في شهرتها، أن تبقى واقفة هكذا في بهو المطعم.
قصدت طاولة توقعت أنه كان سيختارها، في زاوية جميلة تضيئها أنوار خارجيّة تتلألأ على سطح النيل.
إنّ المكان طرف ثالث في أيّ موعد أوّل، وعليها ألّا تخطئ في اختيار الطاولة. هذا إن لم يكن حجز طاولة لا علم لها بها.
كانت تلحق بالنادل، حين وجدت نفسها أمام تلك الملامح، التي خزّنتها ذاكرتها على مدى ساعتين. إنّه ((هو))، الرجل الذي غنّت له أمس.. ماذا يفعل هنا؟ أتراها مصادفة؟ أم هو من ضرب لها موعداً؟ أغلق جهاز الهاتف النقال الذي كان يتحدث به، ووقف يسلم عليها. لم تفهم أكان ينتظرها أم فوجئ بوجودها.
مدت يدها نحوه فانحنى يضع قبلة عليها. لم تُصدق عينيها.
119
قال مرحّباً:
- سعادة كبيرة أن أحظى برؤيتك اليوم أيضاً..
قبل أن تردّ أو تستردّ أنفاسها، كان النادل يسحب لها الكرسي. جلست وهي تفكّر في الرجل الآخر. ماذا لو جاء، أو لو كان الآن إلى طاولة أخرى يراها تجلس إلى غيره؟ ظلّت متوتّرة تسترق النظر بين الفينة والأخرى إلى حركة المطعم.
قال:
-ماتوقعتُ أن يجمعنا يوماً هذا المكان!
زاد شكّها في أنّه قد يكون وُجد هناك مصادفة. أحاسيس متناقضة عبرتها. غدا ذعرها من أن يحضر الآخر ولا تدري حينذاك مع من تجلس.
علّق وقد لاحظ ارتباكها وتلفّتها بين الحين والآخر:
-هل يزعجك شيء ما؟
ردّت إنقاذاً من انتظارها:
-لا.. لا أبداً.
كان هذا أوّل ما لفظته.
أمامها الآن كلّ الوقت لتتأمّله عن قرب.
رجل خمسينّي بابتسامة على مشارف الصيف، وبكآبة راقية لم تر لها سبباً، وبشعر لم يقربه الشيب بفضل الصبغة. لاحقاً ستعرف أنّ رجلاً يصبغ شعره يُخفي حتماً أمراً ما. رجل مهذب النظرات. مهذّب النوايا. يقبّل يدها بأرستقراطّية عاطفيّة، كمن يضع مسافة بينه وبين غيره من عامّة الرجال.
120
مثلُه أرقى من غباء قبلة على الخدّ أو نفاق مصافحة يد!
بانحناءته تلك، رفع عالياً سقف الرجولة، وحوّلها بقبلة على يدها إلى أميرة، فبدأت تندم على الثوب الذي جاءت فيه، وكان يمكن أن ترتدي أغلى منه، وعلى شعرها الذي لم تغيّر تسريحته للمناسبة، وتركته منساباً بغجريّته كالعادة.
لكن، لا يهمّ أن تكون الساحرة الطيّبة قد خذلتها في موعدها الأوّل، فهي لاتريد الليلة أن تكون ((سندريلا)). كان لها إشعاع الكائن المُشتهى، وهذا يكفيها.
كانت سّيدة أجنبيّة شقراء بثوب سهرة عاري الظهر، تعزف على البيانو منوعات موسيقية.. فتركا ((شوبان)) يضع بين كلامهما شيئاً من الفالس. قال:
- أشكرك على سهرة البارحة، سعدت بأن أنفرد بصوتك.
- ردّت بمكر:
- توقّعت أن يسعدك أكثر العمل الخيري الذي قمتَ به!
أجاب:
- لابأس أن يكون الخير ذريعة لإسعاد أنفسنا أيضاً.
- كانت ستسأله هل كان يرعى الأعمال الخيريّة أم أنّ الأعمال الخيريّة ترعى مكاسبه؟
لكنّ السؤال ما كان مناسباً لعشاء أوّل.
-هل أحببت الاغاني التي قدّمتها؟
- أحببت أن تغنّي لي وحدي.
121
إله إغريقي يردّ على أسئلتها. يجلس أمامها على كرسي. أتجلس الآلهة على كرسي واحد؟ وماذا لتطلب للعشاء عندما تتواضع وتقاسم البشر طعامهم؟
تطلب نبيذاً فاخراً طبعاً، وعشاء خفيفاً راقياً، أي أغلى ما يقدّم على قائمة الأكل، بينما تطلب هي الأرخص كعادتها، كما لو كانت بمفردها. لا تريد ادّعاءً كاذباً بأنّها ارستقراطيّة المأكل، ولا أنّها تستغلّ ثراءه لتطلب ما تشاء. بإمكانها أن تعود غداً مع نجلاء وتطلب ما تريد بمالها.
ماتريده الآن حقاً، هو أن تعرف من يكون هذا الرجل ولماذا الآخر لم يحضر؟ أيكون جاء ورآها مع غيره فمضى كما حدث في المطار؟ وماذا لو لم يكن عليها أن تنتظره، لأنّه يجلس قبالتها الآن، محتسياً كأس نبيذه؟ علّق على اعتذارها عن عدم مقاسمته متعته:
-كيف تستطيعين بلوغ تلك الدرجة العالية مفي الشجن حين تغنين.. إن كنت لم تختبري النبيذ في حياتك؟
ردّت:
- من حيث جئت يسكر الناس بالحزن.
- كنت أعني بالشجن النشوة.
احمرّت وجنتاها. ما كانت هذه الكلمة في قاموس حياتها.
ردّت:
-بالنسبة لي، الشجن حزن متنكّر في الطرب.
وضع كأسه وسألها:
- من أين لك هذه اللغة؟
122
- من أسئلتك.
ضحك.
- لك عندي أسئلة كثيرة إذاً!
- مقابل سؤال واحد.
- هاتيه..
- إن كنت تحبّ سماع غنائي ودفعت ما دفعت لتنفرد بصوتي كما تقول، فلماذا لم تحضر لتسلّم عليّ وتشكرني في نهاية الحفل ما دامت اللياقة لا تنقصك كما يبدو؟
-كان أجمل أن أراك أوّل مرّة على انفراد. ثمّة قوس قزح لا يظهر إلّا في اللقاء الأوّل. يضيء سماءنا كومضة برق. أردتُ أن تتعرفي إلى من ضوئي لا من خدعة الأضواء.. لكن قلبك لم يدلك علي تلك المرة أيضاً!
أقال ((أيضاً))؟
شهق قلبها لصاعقة المفاجأة. إنه هو.. أو لعلّه كلاهما!
هو من أرسل لها إذاً باقة التوليب نفسها ليدعوها إلى العشاء اليوم. هو من أخلفت معه ذلك الموعد الأوّل، أو ذلك الفخّ الذي نصبه لها في المطار قبل أشهر ووقعت فيه!
لم يراودها لحظة واحدة أثناء غنائها احتمال أن يكون هو من حجز القاعة. أيكون ثرياً إلى هذا الحد، وعاشقاً وعاطلاً عن العمل كي ينفق جهده وماله في نصب الفخاخ لها. هل فرغ العالم من النساء لتغدو جهده وماله في نصب الفخاخ لها. هل فرغ العالم من النساء لتغدو وحدها هاجسه؟ ولماذا عاد بكلّ هذا الصخب وقد مضى كلّ ذاك الانسحاب الحاسم؟
123
راح قلبها يخفق من وقع المفاجأة. ظلّت للحظات صامته تعيد ترتيب أوراقها، وتستعيد مكالماتهما في ذلك الزمن الأوّل. تتأمّل هذا الرجل الذي على مدى أشهر أسعدها وآلمها.. اختبرها وتخلّى عنها. دلّلها وأهانها.. جاءها وجاء بها كلّما شاء.. وحيثما شاء. ها هو ذا إذاً.
عبثاً وضعت لصوته وجهاً، وللغته مهنة، ولجيبه سقفاً، دوماً زوّر لها الإشارات. لعلّه حان وقت طرح الأسئلة.
- هل لي أن أسأل ماذا تعمل في الحياة؟
ردّ ساخراً:
- لو كان لي الخيار لما كنت غير بائع للأزهار، فإن فاتني الريح لا يفوتني العطر.
- أمنية جميلة.
- إنها أمنية اشترك فيها مع عمر بن الخطاب. هو من قالها.
- تبدو قارئاً جيداً.
- ليس تماماً، لكنني أحفظ كل ما أحب عندما يتعلق الأمر بثقافة الحياة.. أعني مباهجها.
- تدري، قلت البارحة لابنة خالتي إنّني أكاد أجزم أنّ هذا الرجل يملك محلاً للورود، فردّت مازحة.. ويعمل شاعراً في أوقات فراغه!
- صحّحيها.. أنا شاعر بدوام كامل وأعمل بين الحين والآخر رجل أعمال.. -هل تكتب الشعر حقاً؟
- أكتبه؟! لا تلك هواية المفلسين، أنا أعيشه، بإمكانك أن تصنعي من كل يوم تعيشينه قصيدة – أضاف بعد شيء من الصمت – لي مثلاً معك دواوين شعر سأطلعك عليها يوماً.
124
قالت مندهشة:
- معي؟
أجاب كمن يطمئنها:
- المشاريع الجميلة قصائد أيضاً.. كهذا العشاء مثلاً. سبعة أشهر من المثابرة على الحلم والتخطيط له من أجل بلوغ لحظة كهذه. أليس وجودنا هنا نصّاً شعرياً؟!
أخذ جرعة نبيذ كما لو كان يحتسي تلك اللحظة.
علّقت:
- جنون. كان يمكن للأمور أن تكون أسهل.
- الأسهل ليس الأجمل ((إذا كان الطريق سهلاً فاخترع الحواجز)).
- أمّا أنا فلم أجد غير الحواجز وكان عليّ اختراع الطريق!
- كلّ المتفوّقين في الحياة اخترعوا طريقهم. تدرين.. الفوز في المعارك ذات الشأن الكبير يجعلنا أجمل. الناجحون جميلون دائماً. أما لاحظت هذا؟ حتى صوتك ما كان يمكن أن يكون جميلاً إلى هذا الحد، لو لم ينجح في امتحان التحدّي. ظلّت صامتة.
حتماً هو استقى ما يعرفه عنها من مقابلاتها التلفزيونيّة. لكنّ العجيب أنّه يتكلّم أفضل منها عن نفسها، ويوفّر عليها الأسئلة، بل السؤال الأهمّ: ((لماذا هي؟)).
ويبقى سؤال آخر:
-لماذا التوليب بالذات.. وذلك اللون البنفسجي؟
-ربّما كنتِ تفضّلينها وروداً حمراء، كتلك الباقة التي احتضنتها البارحة ببهجة، وسلّمت الأخرى لقائد الفرقة!