الاسود يليق بك (الجزء الرابع) | رواية عربية




كان في نبرته تهكّم ذكيّ لا يخلو من المرارة. علت وجنتيها حمرة الارتباك، قالت معتذرة: 

- فعلت ذلك إكراماً لك. ظننتها باقة منك! 

ردّ بتهكّم: 

- تعنين ظننتها من السيّد الذي حجز قاعة كاملة ليجلس أمامك. والأخرى من ذاك الذي يطاردك بباقات التوليب منذ أشهر! 

أُسقط بيدها. ردّت وقد حشرها في ركن الحقيقة: 

- في تلك اللحظة، كان يعنيني الرجل الجالس قبالتي فهو سيّد الحفل. 

- أنت تعترفين إذاً بأنّك انحزت لسطوة المال وأهنت المشاعر.. 

قالت بعد لحظة صمت شردت فيها بأفكارها: 

- أتكون من بعث لي بباقة الورد الحمراء لتختبرني؟ 

ردّ متهكّماً: 

- لا، لستُ أنا. تلك سلة لا تشبهني! 

فتح محفظة جلدّية فاخرة سوداء يحتفظ فيها بلوازم غليونه، وراح يحشو الغليون بالتبغ. ترك بينهما شيئاً من الصمت وموسيقى على البيانو تعزفها السّيدة الشقراء. حضر النادل يسأل هل يريدان تحلية. اكتفى هو بقهوة وأحضر لها النادل عربة الحلويات لتختار. اختارت قطعة كاتو بالشوكولا. 

قال ممازحاً وملطفاً الأجواء: 

- حتّى في الحلويات لا تخلعين الحداد؟ 

ردّت ضاحكة: 

-بإمكاني أن أقاوم كلّ شيء إلّا الشوكولا. هزمتُ الإرهابيين وهزمتني الشوكولا! 
126

- رّبما يعنيك إذاً خبر منتجع جديد لمدمني الشوكولا، كلّ خدماته قائمة على الشوكولا. المشروبات، الوجبات الرئيسية، الحلويات، وحتى جلسات التدليك ومغطس الحمام من الشوكولا السائلة. 

- هل زرته؟ 

- لا.. حدّثتني عنه صديقة أمضت فيه عدة أيام. إنها مجنونة شوكولا إيضاً. 

شيء ما فاجأها.. أو أزعجها، قالت: 

-حتماً يكون انتهى بها الأمر إلى كراهية الشوكولا! 

-هذا هو المقصود. أن تُشقى من شيء عبر الإفراط فيه. 

-وأنت ألا تحبّ الشوكلا؟ 

-طبعاً، لكن أنا سيّد شهواتي! 

ما الذي جعله في تلك اللحظة ألذ من قطعة الشوكولا التي تذوب في فهما؟ هو ((سيد الشهوات)) و((إله الموائد)) و((سلطان النشوة)) و((الملك)) على قاعة كاملة لا مستمع فيها سواه. أأسرها بقوة شخصيته؟ أم بكل مافعله لبلوغ تلك اللحظة؟ أم أيضاً بسبب طيف المراة ((الصديقة)) الذي تعّمد أن يتركه يعبر كما دون قصد بينهما؟ ماتوقّعت أنّ رجلاً مهووساً بها إلى ذلك الحدّ يمكن أن تكون في حياته امرأة سواها. 

هي لاتدري أنّه ضمن أطباق العشاء ترك لها الغيرة.. للتحلية!

شعرت بأنّها بدأت التزلّج على الحبّ. كم من المشاعر الشاهقة والانحدارات المباغتة عاشتها معه خلال ساعتين. أذهلها بتلك الكاريزما التي تعطي كلماته وزناً خفيفاً ورصيناً في آن واحد، لأنّه لايبدو أنّه قام بجهد للبحث عنها. إنّه لا يقول إلّا نفسه. هذا ما أوقعها في أسرة أيّام كان يحدثها على الهاتف.. حتى إنه أقنعها بمنطق اختبار علاقتهما في مطار، وقبلت قانون اللعبة، فخسرت الرهان! 
127

عندما أخرج بطاقته المصرفيّة ليدفع الحساب، أخرج بطاقة أخرى عليها اسمه الكامل فقط. كتب على ظهرها رقم هاتفه ومدّها قائلاً: ((كلّميني متى شئت)). كان رقماً فرنسياً لا تعرفه. 

((الآلهة)) لا تحتاج إلى إضافة أيّ تعريف إلى اسمها. لا تذكر لك مهنتها ومناصبها السابقة أو الحالية، ولا أسماء شركاتها وعناوينها. ذلك من عادة البسطاء وحديثي النعمة من البشر. 

هذا ما ستدركه لاحقاً. كمن فاز في اليانصيب، شعرت بأنّها تملك الرقم السحري، والاسم الذي حيّرها عدّة أشهر. 

أمدّ الموظّف بورقة نقديّة. طلب منه أن يطلب سيّارة، ويدفع للسائق أجرته سلفاً. انتظر معها وصول السيّارة، وعندما انطلقت بها فقط ركب خلف سائقه وانطلق. 

كان واضحاً أنّ الرجل الذي شغل مقعداً واحداً في القاعة، قد قرّر ألا يُبقي على مقعد واحدٍ شاغر في قلبها. 

*** 

ذلك الموعد القدري معه كان محتوماً. 

كان حبّهما ابناً شرعياً لقدر ثمل بتهكّم الأضداد. ((لا تذهبي بقلبك كلّه)) قال لها عقلها. لكنها ذهبت بقلبها كلّه.. وعادت بلا عقل. 
128

سألتها نجلاء بلهفة الفضول وقد انتظرت عودتها لتنام: 

-هل كان وسيماً؟ 

-بل كان الوقت وسيماً به. 

لم تفهم نجلاء شيئاً من هذه اللغة التي تكلمها بها هالة. عاودت طرح سؤالها: 

-طيب، عدا هذا، هل هو جميل؟ 

-كان كاريزماتياً جداً ويعلم جيداً بذلك. وهذا ما يمنحه جاذبيّة آسرة! 

- يعني كان وسيماً! 

- وما حاجة الأثرياء للوسامة.. إنّهم يبدون دائماً أجمل ممّا هم. إنّهم جميلون بقدر مايملكون. 

في الواقع، ماكانت معنيّة بثرائه، بل بافتقارها إلى الصبر معه. مذ عادت من القاهرة وهي على لهفة لتراه. في حالة دوار عشقي، كأنما إعصار حب يأخذها ريشة في مهبّ هذا الرجل، حتّى من قبل أن يترك لها وقتاً لسبر حقيقته. 

هو أيضاً يحتاج إلى رؤيتها مجدداً. غير أنّه ليس على عجل من أمره. الآن فقط بدأت متعته. اللهفة غدت شأنها. هو لم يقل لها شيئاً بعد. وقد يعود ولا يقول لها سوى نصف الأشياء. عن دهاء، بل عن كبرياء، سيحتفظ بنصف الحقيقة لنفسه. 

الكبرياء أن تقول الأشياء في نصف كلمة، ألا تكرّر. ألّا تصرّ. أن لا يراك الآخر عارياً أبداً. أن تحمي غموضك كما تحمي سرّك. 
129

هو لن يقول لها مثلاً، إنّه يوم رآها في المطار تُحدّق في وجوه كلّ الرجال ماعداه، قرّر أن يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعد لن ترى فيه سواه. يومذاك، وُلدت في ذهنه فكرة أن يحجز قاعة كاملة، تغنّي له فيه وحده. ألّا يأتيها وسط الحشود، بل يكون هو الحشد! 

وهي لن تدري أبداً أنه من اقترح على المستشفى هذا الحفل الخيريّ، ثمّ اشترى المقاعد كلّها باسم إحدى شركاته دون أن تُعرض التذاكر للبيع. في الواقع، لا جمهور لها في مصر، ولا كانت جهة ستدعوها إلى حفل خيريّ! 

حين هاتفته بعد أيّام، كان هو أيضاً قد غادر القاهرة، ولن يكون من السهل هذه المرّة العثور على عنوان لموعدهما. 

ليس من طبعه المجازفة بسمعته. لم تُعرف له أي علاقة نسائية في بيروت، برغم ماعرف من النساء، لاعتقاده أن عليه أن يحمي صورته كرجل ((كامل)). المغامرات الصغيرة.. لصغار القوم! لذا اعتاد أن يغيّر عناوين أسراره من مدينة إلى أخرى. إنّ الأسرار هي ما يُساعدنا على العيش. كم يخسر من لاسرّ له! 

على عكسه، لم يكن في حياتها سرّ لتحميه، أو مكسب لتخاف عليه. ماتخافه هو أن يخلط بعد الآن بينها وبين إناث الشهوة، وصائدات الثروة. أن يكون أساء الظّن بها مذ رآها على المسرح تحتضن تلك الباقة الحمراء وتتنازل عن باقته. 

اتصلت به بعد أن هزمها الشوق: 

-سآتي إلى بيروت الأسبوع المقبل بدعوة من شركة الإنتاج لإطلاق ألبومي الجديد. 
130

قالتها كما من دون قصد. ألقت إليه بطُعم ظنّته سيلتقطه فوراً. 

لكنّه ما كان سمكة. كان يمتلك صبر صيّاد.. وحنكته. قال على الطرف الآخر للهاتف: 

-جميل، يسعدني نجاحك.. وكيف والدتك؟ 

-جيّدة. شكراً. 

ثم أضافت وقد فاجأها السؤال: 

-وكيف عرفت بها؟ 

ضحك: 

- أعرف كلّ ما يهّمني. 

-صدقاً، كيف عرفت؟ 

-سمعتك تتحدّثين عنها في أحد البرامج. قلت إنّك غادرت الجزائر برفقتها، بعد الأحداث الأليمة التي عرفتها عائلتكم. 

-أنت تملك ذاكرة قويّة! 

-بل ذاكرة انتقائيّة. أذكر حتّى الثياب التي كنت ترتدينها في مطار شارل ديغول.. وماركة النّظارة التي كنت تضعينها.. ولون الحقيبة التي كنت تجرّينها! 

ارتبكت، فكّرت أنّه لن يغفر لها أبداً تلك الحادثة. وفكّر هو أنّ مايذكره حقاً هو ملامح الرجال الذين قصدتهم. أما ما لا يغفره لها، فهو كونها لم تتذّكر ملامحه برغم جلوسه أربع ساعات بمحاذاتها في الطائرة، وبدت حين دعائها للعشاء وكأنّها تراه أوّل مرّة. أمثله رجل عادي إلى هذا الحدّ؟! 
131

لكنّه لن يقول لها هذا. من أخلاق الجنتلمان ألّا يحشر امرأة في زاوية تفقد جماليّة أنوثتها، لأنّه إذذاك سيتبشّع وهو يضعها في موقف غير لائق، ويكفّ عن أن يكون رجلاً! 

ودّعها كما لو كان فجأة على عجل. 

-هاتفيني من بيروت.. ربّما استطعت أن أرتّب لنا موعداً. 

((ربّما))؟! أبأربعة أحرف للشكّ يختصر شوقه لها؟ وكيف لهذه الرصانة أن تلي كلّ ما أقدم عليه من جنون.. تارة ليراها في مطار، ومرّة لينفرد بسماعها في حفل، وأخرى ليحظى بعشاء معها. 

كانت حياتها ساكنة حتّى جاء وألقى حجراً في بركة أيّامها الراكدة، مخلفاً كل دوائر الأسئلة. لا تستطيع أن تنكر حقيقة أنّها، منذ ذلك العشاء، لاتنتظر سوى هاتفه. 

هي لم تكن يوماً من سلالة نساء الانتظار، لكنّها، من دون أن تدري، في كل ماتفعله الآن، تنتظره. هي لا تحتاج إلى مواعيد عمل لتزور بيروت. كان يمكن أن تحضر قبل ذلك الموعد لو رأت منه حماسة ما، فالمسافة بين الشام وبيروت لا تستغرق سوى ثلاث ساعات. وبإمكانها إقناع والدتها بما تشاء، الذرائع لا تنقصها.. ونجلاء ((الملاك الحارس)) ستدعم مشاريعها، وتمنحها شهادة براءة. لكنّها ستصمد وتسافر في الوقت المحّدد، كما لو أن لقاءه ليس أمنيتها. 

حمدت الله أنّ أمّها ألغت في اللحظة الأخيرة فكرة مرافقتها. برد كانون جعلها تفضّل البقاء في الشام. 
132

-طريق الشام بيروت خطرة بهالأيام،ساعات تقطعها الثلوج. تأكدي حبيبتي من النشرة الجوّيّة قبل ما تسافري. 

نجلاء أيضاً لن تأتي. هي مشغولة بخطيبها العائد من دبي لقضاء الأعياد. لا أحد يرافقها إذاً عدا أحلامها.. أو أوهامها. فهي تذهب إلى الحبّ دون بوصلة تأمين على قلبها. 

انتظرت أن تحلّ ضيفة على البرنامج التلفزيوني، عساه يعرف بوجودها في بيروت. لا تريد أن تعطيه انطباعاً بأنّها على عجلة لملاقاته. لكن لا هاتفه جاء،ولا جاءت وروده. ربّما ما عاد من وقت لباقة حبّ إضافيّة. 

دهمها حزن من فقد شيء ما كان يدري بوجوده، أو على الأصحّ بقيمته. ربّما أراد أن يقاصصها على باقة ورده التي رآها تسلّمها لقائد الفرقة وتحتضن غيرها. لا تظنّه سيبعث لها ورداً بعد الآن. 

اجتاحها الأسى. كحزن بيانو مركون ومغلق على موسيقى لن يعزفها أحد. انتهت ليلتها وحيدة في غرفة في ذلك الفندق الفاخر، تفكّر في تلك الفواتير، التي يدفعها المرء عن غباء، غير مدرك قيمة الأشياء حين تُقبل عليه الحياة في كلّ أبهتها! 

*** 

عذاب الانتظار؟ وماذا عن عذاب ألّا تنتظر شيئاً؟ 

كان يحتاج إلى أن يكون له موعد مع الحبّ كي يحيا، كي يبقى قيد اشتهائه للحياة، قيد الشباب. الوقت بين موعدين أهمّ من الموعد.والحبّ أهمّ من الحبيب نفسه. وهو لكلّ هذه الأسباب جاهز لحبّها.. أو على الأصحّ جاهز لها. 
133

صباح اليوم الثالث لوجودها في بيروت، هاتفها. أخفت عنه ترقّبها لصوته. لكنّها ما استطاعت أن تخفي فَرْحتها. 

-كنت أخشى أن أغادر بيروت دون سماعك. 

-ما كان يمكن ألّا أهاتفك.. انشغلت هذه الأياّم ليس أكثر. 

أوصل لها إشعاراً بأنّ ثمّة ما هو أهمّ منها في حياته، ومهما كان هذا الشيء فستحزن. ففي سلّم الأولويّات، الحب هو الأوّل في حياة المراة.. ويلي أشياء أهمّ في حياة الرجل. 

-هل كان البرنامج الذي استضافك ناجحاً؟ 

إشعار آخر لها بأنّه لم يتابع البرنامج، هو الذي اعتاد أن يرسل إليها الورود نفسها في كل ظهور تلفزيوني. الحقيقة أنه برمج المسجّل في مكتبه لتسجيل تلك الحلقة حتى لا يشاهدها مساءً في حضرة زوجته، فتعجب لاهتماماته الجديدة. 

في اليوم التالي شاهدها في مكتبه وهو يدخّن غليونه، فكّر أنّ عليه أن يغيّر طريقة لبسها. 

مسكينة كم أجهدت نفسها لتبدو في شكل جميل، وهي حزينة الآن لأنه قال إنّه لم يرها! 

تجيب كما لو أنّها تزفّ له بشرى: 

-كان ناجحاً جداً. لقد لقي صدىً طيباً في الإعلام. 

يعلّق: 

-أنا سعيد من أجلك.. 
134

يقصد: سعيد من أجله. فقد نجح في إرباكها وإفساد فرحتها. وستحتاج إليه في انكسارها. هي الشهّية كحروف النفي. التي اعتادت أن تقول له ((لا)) و((لن)) على مدى شهر. كأنّه يسمعها الآن تسأل ((هل أراك؟)). 

لكّنها تقول شيئاً آخر: 

-أتحبّ أن أرسل إليك ألبومي الجديد؟ 

يفاجُئها جوابه: 

-أحبّ ما لا تجرئين على قوله! 

حاولت استعادة بعض أسلحتها الدفاعيّة: 

-لا أظنّك تضاهينني شجاعة. 

- الجرأة غير الشجاعة. 

-وماذا تودُني أن أقول؟ 

-تماماً ما تودّين أن تقولي! 

لم يحدث أن حشرها رجل في هذه الزاوية الضّيقة للحقيقة. 

واصل: 

-الجرأة ليست في أن تواجهي الإرهابيين، بل في أن تحاربي نزعتك لقمع نفسك، وإخراس جسدك، وتفخيخ كلّ الأشياء الجميلة بحروف النهي والرفض. الحياة أجمل من أن تعلني الحرب عليها.. حاربي أعداءها! 

استدرجها حيث شاء. قالت ماتمنّت أن تقوله حقاً: 

-متى أراك؟ 

-اليوم طبعاً.. مادمتِ ستسافرين غداً! 

-أين؟ 

-سأزورك في الفندق. 
135

-الفندق؟! 

- لا لشيء سوى لأنّه المكان الأكثر تستّراً في مدينة لا سرّ فيها. مارقم غرفتك؟

- 423. 

لفظت الرقم غير مصدّقة تسارع الأحداث، كأنّ الأمور أفلتت من يدها، وأنّ امرأة غيرها تلفظ الأرقام الثلاثة التي ستتحوّل، حال انتهاء المكالمة، إلى أحرف ثلاثة: ((ع ي ب))، تلك التي تحكّمت في حياتها حتى الآن. طبعاً ((عيب)) هذا الذي تقوم به. أغلقت الهاتف وهي تتساءل كيف أقدمت على أمر كهذا. 

في الخارج شتاء ومطر جُنّ جنونه. لكنها أكثر جنوناً من الطبيعة. لأّوّل مرّة تجرؤ على استقبال رجل في غرفتها. 

أيّ رجل هذا؟ سيّد مطلق يأتي عندما لا ننتظره، يقول ما لا تتوقّعه، يهجرها حين يشاء، يقتحم حياتها متى يناسبه، يشتري صوتها حين يريد، يضرب لها موعداً حيث يحلو له! 

راح نصفها الشرس يحاكم نصفها الوديع، ورجولتها تحاسب أنوثتها المطيعة. ألم يقل لها أحدهم متغزّلاً ((أجمل ما في امرأة شديدة الأنوثة.. هو نفحة من الذكورة))؟ مصيبتها كونها اكتسبت أخلاقاً رجّاليّة، وكثيراً ما قست على نفسها كما لو كانت أحداً غيرها. والآن، ما عادت تعرف كيف تعود من جديد أنثى، ولا كيف تستعدّ لهذه المداهمة العاطفيّة. 

تأمّلت الغرفة، على جمالها هي أصغر من أن تليق برجل يحجز قاعة كاملة، ليجلس على مقعد واحد! 
136

لا تملك لاستقباله سوى أريكتين، وطاولة في زاوية من الغرفة، على شكل صالون. شعرت أنّ الطاولة فارغة وأنّ سلّة الفواكه تحتاج لإعادة ترتيب، وضعت مكانها على الطاولة مزهريّة، كي تبدو الغرفة أجمل. 

والآن.. ماذا ترتدي؟ يا الله ماذا ترتدي لاستقباله؟ خلعت ولبست ثوبين أو ثلاثة على عجل، كما لو كانت في سباق.. ومسابقة في آن واحد. 

ثم أسرعت إلى الحمّام تجّدد هيئتها، حين تذكّرت أنّه قد يدخل الحمّام، ويقع نظره على لوازم زينتها. أصابع الحمرة ذات الماركات العادية، علبة البودرة التي أشرفت على نهايتها، وما زالت تحتفظ بها. كريمات وأقلام كحل سينفضح بها تواضع جيبها، وعادت اكتسبتها أيّام الحاجة. جمعت كلّ شيء وأخفته داخل الخزانة الموجودة تحت المغسلة وتنفّست الصعداء. 

لعنته وهي تراقب الساعة. ثم لامت نفسها لفرط توتّرها، ولأنها قبلت أن تستقبله في غرفتها. ماتوقّعت أن تقدم يوماً على شيء كهذا. لعلّها جُنّت. من يكون ليفعل بها كلّ هذا؟ وكيف سمحت له بإرباك حياتها إلى هذا الحّد؟! 

رنّ هاتفها فجأة وقال صوته: 

-افتحي. أنا هنا! 

راحت دقّات قلبها تتسارع وهي تتّجه نحو الباب. ألقت في طريقها نظرة سريعة على المرآة. وذهبت تفتح الباب للحبّ. أيّ حدث مشهدي أن يجيء ذلك الرجل. أن يدخل. أن يغلق الباب خلفه. 
137

لكنه، لا يقبّلها ولا يصافحها. لا ينحني كأوّل مّرة ليقبل يدها ولا ينظر حتّى لعينيها. اجتاز باب الغرفة وهو يدّقق في هاتفه، ليمحو الرقم الذي طلبه لتوّه.. رقم هاتفها! 

كم من الأحلام كانت ستتهشّم داخلها، لو هي انتبهت أنّه كان يتبرّأ منها، وهو يقصدها، خوفاً من أن يقع أحد على رقمها مسجّلاً على هاتفه! 

أعاد إلى جيبه الهاتف ممحواً منه رقمُها. حينذاك فقط قال: ((أهلاً))، مسترقاً نظرة إليها. اتّجه صوب الأريكة، كما لو كان جاء ليرتاح قليلاً. مدّ رجليه دون أن يفقد لياقته.. ونظر أخيراً إليها. 

*** 

كان يحتاج إلى أن يُجنّ بين الحين والآخر، ولو كذباً، ليمارس على الحياة سطوة ذكائه الرجّالي كسارق لن يُمسك يوماً بالجرم المشهود. شيء شبيه باللعبة يمارسها مع أنثاه الحقيقيّة: الحياة. 

يحتاج إلى أن يجازف إكراماً لتلك اللحظات الباهرة في بذخها. الباهرة لا الباهظة. فلا علاقة نسائيّة تستحقّ أن يخسر من أجلها مكاسبه الاجتماعيّة. وهذه إحدى المرّات النادرة التي سيلتقي فيها امراة في بيروت. للجنون عادة عناوين مدن أخرى. وهو احتاط لكلّ الاحتمالات، مستفيداً من وجود ضيف له، حضر من باريس، فدعاه إلى العشاء في الفندق نفسه برفقة مدير أعماله. 
138

كان يحتاج إلى غطاء لدخول الفندق، وللجلوس في صالة رجال الأعمال الكائنة في آخر طابق. ثمّ سيسهل عليه الاعتذار، والتغّيب بعض الوقت متذرّعاً باتّصال طارئ. 

سألها بذلك الاشتهاء الملتبس: 

-كيف أنت؟ 

كانت شفّافة المزاج كبيتٍ مسيّج بالزجاج، ما كان لباطنها من سرّ. لذلك كان يسهل عليه مطالعتها، أو مطالعة الاجوبة التي تحتفظ بها لنفسها. 

ردّت وهي مازالت واقفة: 

-أنا جيدة.. شكراً. 

تأمّلته. كان جالساً وهي واقفة. اكتشفته من زاوية جديدة للرؤية. 

لم يكن يشبه رجلاً كانت تتصوّر أنّها ستحبّه. لكّنها تحّبه. بأناقته الفائقة. بتفاصيله المنتقاة بعناية ككلماته. بإبتسامته الغامضة. بتعليقاته الماكرة. كما حين يردّ على ذعرها من استقباله: 

-الحبّ سطو مشروع.. لا علاقة شرعيّة.. عليك أن تعيشيه هكذا – مواصلاً بعد شيء من الصمت – اجلسي.. لماذا أنت واقفة؟ نحن في فندق راق لن يفتح الباب أحد.. أو ضعي على الباب ((الرجاء عدم الإزعاج)) إن كان هذا يُريحك! 

ذهبت تطّبق نصيحته من دون أن ترتاح تماماً. ماذا لو كان الخطر الآن في الداخل، لا من خارج الغرفة! 

ما أدراها ما يجول في رأس هذا الرجل؟ 
139

عادت لتجلس مقابلة له على الأريكة الثانية. قال وهو يزيح قليلاً المزهريّة التي تحجب الرؤية بينهما: 

-ساقي الورود ليس من سيقطفها، ولا قاطفها من ستنتهي في مزهريّة في بيته! 

لم تحاول أن تفهم ما أراد قوله. استفادت من تداعيات الكلام.. قالت: 

-لقد وصلتني هذه الباقة هديّة. 

تعمّدت ألّا تقول ممّن عساها تثير غيرته أو فضوله. لكّنه علّق:

-إنّ من يهدي ورداً يقدّم انطباعاً عن نفسه. 

أدركت أنّه يستخفّ بذوق من اختار تلك الورود.. قالت: 

-لكلّ ذوقه.. شخصياً، لم أفهم لماذا تحبّ زهرة التوليب بالذات، وذلك اللون البنفسجي الغريب. 

-لأنّها زهرة لم يمتلك سرّها أحد. لونها مستعصٍ على التفسير، يقارب الأسود في معاكسته للألوان الضوئيّة. إنّها مثلك وردة لم تخلع عنها عباءة الحياء، ثمّة ورود سيئّة السمعة تتحرّش بقاطفها.. تشهر لونها وعطرها، هذه ستجد دائماً عابر سبيل يشتريها.. كتلك التي قُدّمت لك في الحفل! 

قالت كأنّها تتبرّأ من الباقة: 

-للمناسبة، علمت أنّها كانت التفاتة من إدارة المسرح، لوضع لمسة بهجة في ختام الحفل، لا يمكن للجميع مقاسمتك ذوقك.. لكلّ وردته، لعلّك اعتدت أن تهدي هذه الوردة تحديداً، أعني ربّما كانت وردتك.. 

قاطعها: 

- بل هي وردتك. لم أهدها قبل اليوم لأحد. لمحتها مرّة في محلّ للورود وعجبت لغرابة لونها. عادة أهدي نوعاً آخر. 
140

أكان عليها أن تسعد لأنّه لم يهد ((وردتها)) من قبل لأحد؟ أم تحزن لأنّه أهدى وروداً لغيرها؟ ألكلّ امرأة في حياته وردتها الخاصة؟ 

هذا البستاني الذي يُقسّم النساء إلى فصائل وأجناس من النباتات، تحتاج هي المعلّمة إلى أن تتعلّم أبجديّة الزهور، لتفهم ماذا أراد أن يقول لها طوال هذه الأشهر. قالت ممازحة: 

-ربّما عليّ أن أتعلّم لغة الورود قبل التحاور معك. 

ردّ مصحّحاً: 

-ليست قضّية لغة، بل قضّية أناقة، لا أكثر أناقة من وردة لا تثرثر كثيراً. نحن لا نُهدي وروداً لتتّكلم عنّا.. بل لتحمي التباس ما نودّ قوله. 

-وماذا أردت أن تقول في النهاية؟ 

-في النهاية؟ لكننا لم نبدأ بعد.. عندما نبلغ النهاية، لن يبقى ثمّة مانقوله. 

هو يعني لن يبقى ثمّة مانهديه. هذا مافهمته. 

أيّ رجل هذا؟ لم يكن جميلاُ، بل أكثر. كان يملك ثقافة الجمال، أو ربّما كان جميلاً كما هم العشّاق، كما هم الأساتذة بالنسبة لتلاميذهم. وهي الآن تكتشف مكمن ضوئه. كأنّها تجلس مكان تلاميذها لتستمع إليه يلقي درساً في مادّة لم يعّلمها إيّاها أحد: 

مادّة الحياة. 
141

نهضت تخفي ارتباكها بسؤال: 

-أتودّ أن تشرب شيئاً؟ 

لكنّه نهض بدوره وقال معتذراً: 

-ثمّة من ينتظرني على العشاء. لقد سرقت بعض الوقت لأسلّم عليك ليس أكثر. 

وقفت مذهولة وهي تراه يتّجه صوب الباب. مشت خلفه بتأنٍّ كما لتستبقيه وقتاً أطول غير مصدّقة أنّ أجل فرحتها انتهى. فقدت صوتها. لا تدري أيّهما كان الأكثر زلزلة لقلبها: مجيئه أم مغادرته. وقفت خلف الباب المغلق تودّعه صمتاً. كزهرة توليب خذلتها الريح، انحنى رأسها قليلاً. كان يراقب انكسارات روحها. تذكّر أنّه في الميثولوجيا، لم تكن الزهور سوى صبايا قتلتهن العاطفة، فتحوّلن إلى زهور. هذه امرأة من سلالة الزنبق، تحتاج إلى أن يسندها بقبلة. 

ترك شفتاه تلتهمان ما تمنّاه طويلاً. قبلة بمذاق التوت البرّي. كان محمولاً بأحاسيس وحشيّة بعد أشهرٍ من الاشتهاء. راح في قبلة واحدة يشعل حطب الانتظار كلّه. انقضت سنة كاملة، بُعداً وصداً، ومداً وجزراً، لبلوغ حريق كهذا. آن قطاف هذه الزهرة الناريّة. 

لم يُضف كلمة إلى تلك القبلة. فتح الباب ودلف إلى الخارج، بعد أن أودع جناحيها للنار. 

في مرآة المصعد، تفقّد هيئته، وحين اطمأنّ لمظهره، ابتسم. 

هو يدري أنّه من تلك المحرقة ستولد فراشة تحتاج إليه بعد الآن كي تطير. سيّد القدوم الآسر و الانصراف الباكر.. مضى، وظلّت هي واقفة، مستندة إلى جدار النشوة، لا تدري ما الذي حلّ بها. 
142

في أسطورة ((الجميلة النائمة)) تُوقظ قُبلة من أمير تلك الجميلة النائمة منذ دهر. تفكّ عنها سحر ساحرة شرّيرة حكمت عليها بالنوم المؤبّد. 

في أسطورتها هي، يقع عليها السحر مُذ يضع ذلك الرجل العابر شفتيه على شفتيها. شفتان قبضتها على قدرها، وتركتاها في غيبوبة النشوة، تحت تأثير الخدر العشقي، كما في نوم لذيذ. 

ظلّت مسندة ظهرها إلى الجدار، عاجزة عن التفكير أو الحركة، لا تريد أن تستيقظ من سحرها. 

هو لم يهبها قبلة.. وهبها شفتيها، فما كان لها قبلة من شفتين! 




((حين تخجل المرأة، تفوح عطراً جميلاً لا يخطئه أنف رجلاً.))





كان له قوّة ونضج رجل صنعه ثراءَّه بذكائه. لكنّه ما كان يبدو رجل أعمال. في الواقع هو يحترف الحياة. لا عمل له سوى ممارستها. يإمكانه أن يدعو أسماك القرش إلى طاولته، من دون أن يشاركها في شهيّتها للدم. 

كان الدلفين المسالم وسط حيتان المال. شراسته وأذاه يحتفظ بهما للمرأة التي يعنيه أمرها. لفرط إصراره على الاستحواذ عليها، سيدميها دوماً، ويتركها تنزف من ظلم فقدانه وسط الأمواج العاتية للحياة. 

هو نفسه لا يدري لماذا فعل ذلك بكلّ امرأة أحبّها أو توهّم حبّها. 

كان يعاني عجزاً عاطفياً يحول دون تسليم قلبه حقاً لامرأة. 

ربّما لم يُشفَ من خيانة المرأة الأولى في حياته، تلك التي تخلت عنه لتتزوّج غيره. طوال عمره، سيشكّ في صدق النساء، وسيتخلىّ عنهنّ خشية أن يتخلّين عنه. كشهريار، سيعاقبهنّ على جريمة لا علم لهنّ بها. 
146

وهذه الفتاة التي قبّلها لتوّه وذهب للعشاء.. رغم اشتهائه لها، وثقته بكونها لا تشبه غيرها، سيُبقيها على جوعها إليه حتّى تستوي. يخفّف النار حيناً ويضرمها حيناً، ويصبر حتّى تحين وليمتها. 

عندما تتقن فنّ الطبخ، أنت حتماً تعرف كيف تعدّ مائدة حياتك، وكيف تطهو رغباتك. متعتك تبدأ بالإعداد للمتعة، من إحضار لوازم أطباقك، ومد مائدة انتظارك. 

مباهج المائدة مهنته، وإلّا ما كان نجح في امتلاك سلسلة من أشهر المطاعم عبر العالم. 

ما يعنيه الآن أكثر، هو الأرض التي اشتراها قبل أشهر. سيسافر غداً بصحبة المهندس لدراسة مشروع تحويلها إلى مطعم عائم فاخر. لا يمكن أن يدخل الخليج إلا بمشروع لم يسبقه إليه أحد، لا يدري في أيّ عمر ولا متى وُلد حلمه. مطعم أقدامه في البحر، وجدرانه أكواريوم تسبح فيها أسماك بلوحات لونيّة مبهجة. أمّا الأرضيّة فيتصوّرها كثباناً رمليّة منخفضة، تتناثر عليها الأصداف المختلفة الأشكال، يرتفع فوقها على علو نصف متر زجاج يميل إلى الزرقة يوحي لمن يمشي فوقه أنه يمشي على البحر. الطاولات ستكون بتصاميم عصرّية من الزجاج الفاخر، بألوان بحرّية متدرّجة. وستكون قليلة ومتباعدة. الرفاهية والفخامة تقتضيان ذلك! 
147

المشاريع عنده تولد أحلاماً بألوانها وتفاصيلها، كل ما يحتاج إليه مهندس يضاهيه جنوناً. وأحياناً أكثر من مهندس ليتناوبوا على تجسيد أحلامه. كما في البيت الذي اشتراه في ((كان))، وأصرّ على أن يستحدث في حديقته هضبة صخريّة ينزل منها شلاّل اصطناعي يعبر تحت جسر خشبيّ. هو مهووس بالنوافير الرومانّية والأندلسيّة، الجداريّة منها والدائريّة. يحتاج إلى بهجة منظرها، وصوت خرير الماء، كإحدى سمفونيات الكون، كي يستعيد طمأنينته في عالم صاخب. 

قلما خذلته أحلامه لاعتقاده أنّ كّل ما يحلم به المرء قابل للتنفيذ. وحيث تصل أحلامك بإمكان أقدامك أن تصل. 

كلّ ما حقّقه في حياته سبق أن عاشه كرؤيا. يوم سافر قبل ثلاثين سنة إلى البرازيل، كان يدري أنّه سيعود إلى لبنان أكثر ثراءً، ممّن دعوه من أهله للإقامة بينهم، حتّى تهدأ الحرب الأهليّة. ما أحزنه هو ترك دراسته في بداية السنة الجامعيّة. لن يكون يوماً أستاذ أدب مقارن، ولا أستاذ فلسفة... المادّتين اللتين كان يحبّهما أكثر من سواهما، ربّما بحكم الحياة التي عاشها، والتي لم تكن له من عائلة فيها سوى الكتب. 

ثم إنّ بيروت السبعينيّات كانت مهووسة بالثقافة والتنظير. الكلّ كان فيلسوفاً على طريقته، جاهزاً، أياً تكن مهنته، لأن يصبح كاتباً، أو صحافياً، أو شاعراً.. بقدر هوسها اليوم بتخريج جحافل المتخصّصين في إدارة الأعمال، والمصرفييّن، وخبراء الكومبيوتر، وجرّاحي التجميل. 

تغّير العالم إلى حدّ لن تعثر فيه اليوم على أحد يباهي بأنّ ابنه يدرس ليصبح أستاذاً في الأدب، أو في الجغرافية، أو في التاريخ، أو الفلسفة. وظائف كثيرة مهدّدة بالتطهير المهنيّ وقد تنقرض ذات يوم لأنّه ليس لأحلامها من جيوب. 
148

هل كان سيهاجر لو حقّق حلمه بأن يصبح أستاذاً للأدب المقارن؟ وأيّ ثراء غير الثراء الفكري كان سيجنيه من أصدقائه الإغريق، الذين حزن يوم استبدل بهم مطعماً لبنانياً متواضعاً في ريو دي جانيرو؟ 

لاحقاً، أدرك أنّ ((ما قد يبدو لك خسارة قد يكون هو بالتحديد الشيء الذي سيصبح في ما بعد مسؤولاً عن إتمام أعظم إنجازات حياتك)). كانت ضربة حظّ أوصلته إلى إطلاق مشروعه في بلاد يقيم فيها أكثر من خمسة ملايين برازيلي من أصول لبنانيّة. 

في ذلك المطعم وُلد حلمه بامتلاك مطعم للوجبات اللبنانيّة السريعة. يكون مشروع سلسلة مطاعم عصريّة، على الطريقة الأميركيّة، تتمركز حول الأحياء الجامعيّة. الوجبات فيها مصوّرة ومعلنة برقمها، وسعرها محدّد حسب بشكيلتها. كلها من المطعم اللبناني، حتى قطعة الحلوى، ومشروب الجلاّب بالصنوبر. وحين افتتح بعد خمس سنوات مطعمه الثالث في ذلك الحيّ الجامعي، لمح في إحدى زياراته تلك الفتاة اللبنانيّة اللافتة الجمال تتردّد على مطعمه. كانت تدرس الحقوق وتحلم في الواقع أن تعمل في المسرح. فتاة أنيقة رصينة في بلاد السامبا.. إنّه شيء نادر. 

كان يدري بعد أوّل موعد جمعهما، أنّها برغم الاسم العائلي الكبير الذي تحمله، ستكون له وستحمل اسمه. قال لها بما اكتسب من خبرة في إحكام شباكه: ((حبّنا هو أوّل قضيّة عليك كسبها.. سأمنحك فرصة المرافعة لتكوني امرأة حياتي)). 
149

لكأنّه لفظ جملة سحريّة. وقعت الفتاة بين يديه كتفّاحة آن قطافها. فعلاً، كان عليها أن ترافع طويلاً وبإصرار، دفاعاً عن مشروع حياتها. فهي تريد هذا الرجل. شيء ما فيه يأسرها، ولا يعنيها أن لا يكون له اسم ضارب في جذور شجرة عائلية كبيرة.. ولا ألّا يكون من أصحاب ((المهن النبيلة)) التي يصرّ عليها والدها. فلا ينقص عائلتها المحامون ولا الأطبّاء ولا السياسيون، ولا بأس أن ينضمّ إليهم قريب يعمل في مهنة حرّة، ولا يملك الشهادات التي يزيّنون بها مكاتبهم وعياداتهم. 

حارب والدها هذا الزواج بما استطاع من إغراءات، ثم من تهديدات، لاعتقاده أن فتاة في العشرين من عمرها غير أهلٍ لاختيار مستقبلها.. ولأنّها البنت الوحيدة بين شابّين، ولا يريد أن يراها تتعذّب مدى حياتها، بسبب خطأ اقترفته في شبابها. ثم استسلم لرغبتها حين رأى في ذلك الفتى المتّقد ذكاءً وطموحاً، والمتمتّع بأخلاق عربيّة عالية، ما يطمئنه، فأكثر ما كان يخشاه في بلدٍ قائم على خليط الأجناس أن تأتيه ابنته يوماً برجل من متشرّدي التاريخ أو الجغرافية. 

لم ينس لها يوماً أنّها اختارته قبل أن يكون له اسم وجاه، ولا أنّها منحته صباها وابنتين في جمالها. حرص على ألّا يؤذيها يوماً، ولا أن تسمع عنه ما يؤلمها. قرّر أن يصنع له اسماً تباهي به أهلها. ربح التحدّي حين بعد أربع سنوات من زواجه بها، نزلت عليه ثروات ماتوقّعها. 

اجتاز بوّابة الأحلام كما لو كان يمشي في نومه. ماعاد يحتاج إلى أن يطالع حظّه في فنجان قهوة. لقد غدت القهوة حظّه وباب ثروته، مذ شاء حسن طالعه أن يهّتم بتجارة البنّ، وأن ترتفع أسعار البنّ في الأسواق العالمّية، ارتفاعاً تاريخياً، بحيث حقّق في سنتين، ما أجلسه على إمبراطوريّة تجاريّة، أصبحت تشمل سلسلة المطاعم، وتجارة البنّ، والعقارات التي راح يستثمر فيها أمواله. حينذاك قرّر أن يدخل سوق الرفاهية، ويشرع في تحقيق ما حلم به دوماً: الاستثمار في عالم من الفرادة والفخامة، لا يدخله إلّا من لا تعرف أحلامه التواضع. لن يقبل بعد الآن بأقلّ من التميّز. فما الترف سوى أن لا تشبه العامّة في شيء، حتّى عندما يتعلّق الأمر بإرسال باقة ورد! 

*** 
150

كان بإمكانه أن يجنّ بامرأة، ويحتفظ على رغم ذلك برأسه فوق الماء. رجل ((برمائي)) تدرّب على الصمود في وجه الرغبات. ((جميل أن تقاوم الإغراءات، هذا يرفع من معنويّاتك)) كان يقول لنفسه! 

أمّا هي، فلم تعرف الحبّ، ولا تذكر أنّ رجلاً قبله قبّلها. لذلك غرقت في تلك المتعة، وظلّت لأيّام تتّنفس تحت الماء! 

عادت إلى الشام من دون أن تغادر الغرفة 423. إنه احتلال غير معلن، من رجل شرع في اجتياحها رويداً رويداً، وهي الآن كائن مُحتلّ تهذي أنوثتها به، لا هوس لها إلّا رؤيته وسماعه مجدّداً. 

فجأة أصبح الهاتف نوعاً من أنواع الاستعباد والإهانة أيضاً. عندما لا يردّ أحد على الطرف الآخر، كما لو أنّك لست أحداً، ولأّنّه مشغول بما هو أهمّ منك. 

طلبته مرّتين على جوّاله. أطال هاتفه الرنين، وعندما لم يردّ، قرّرت ألا تعاود الأتصال به. لكنها ظلّت في انقطاعها عنه تقيس حجم الإهانة، كما لو كانت تحمل داخلها عدّاداً. 
151

بعد ثمانية أيّام، على الأصحّ بعد سبعة أيّام ونصف اليوم، بالتحديد بعد 192 ساعة، من تلك الساعة التاسعة مساءً، التي زارها فيها في الفندق، ظهر رقمه ذات صباح على الهاتف كهلال عيد. قاومت إلحاح رنينه، وهدّدت يدها بالقطع إن هي ضعفت وردّت عليه. قرّرت أن تكون فرحتها، في إفساد فرحته بسماعها. أمرت قلبها أن يكابر، أن يثأر لكرامة شفتيها. 

كيف تسنّى له تقبيلها بذلك الولع، ثم الانصراف إلى شؤونه كأنّ شيئاً لم يحدث، كأنّها منحته ما اعتاد امتلاكه بحكم ثرائه؟ لقد اشترى صوتها مرّة لمدّة ساعتين، لكنّه الآن، بكّل ما يملك من مال، لن يشتري كلمة منها. هي قادرة على عنف عاطفي لا عهد له به، ولا يتوقّعه من امرأة. 

ليس البكاء، بل الكبرياء، هي الأداة الملائمة في موقف كهذا.

وهي، في هذا المجال بالذات، لا تحتاج إلى دروس. إن كانت مبتدئة في الحبّ، فهي طاعنة في التحدّي! 

هذا ما لم يتوقّعه منها. ما كان مهيّأًّ لمعركة كهذه، ولا لهزيمة بعد نصر. فقد اعتقد أنّه حسم أمر هذه الفتاة، وكسب كلّ الجولات في قُبلة واحدة. هو لايفهم تمرّدها على نعمته، ولا عدم تقديرها لمجازفته بزيارتها في غرفتها، وسرقته بعض الوقت بين الحين والآخر لمهاتفتها. بينما ما عادت هي تتقبّل فكرة أن يتصرّف بها هذا الرجل كيفما شاء، وأن يمّن عليها بالحبّ والاهتمام، فقط حين يسمح له وقته بذلك. 

مذ قرّرت أن تقاطع هواتفه، استعادت عافيتها، أو على الأصحّ، خفّ ألمها. منذ اللحظة التي طلبها ولم تتحّرك يدها للردّ عليه، بدأ العداد يعمل لمصلحتها، وما عاد عليها أن تعدّ الأيّام والساعات وتفكّر ماذا عساه يشغله عنها. تركت له وجع الأسئلة. 
152

قرأت يوماً أنّ راحة القلب في العمل، وأنّ السعادة هي أن تكون مشغولاً إلى حدّ لا تنتبه معه أنّك تعيس، فهجمت على العمل طمعاً في نسيانه. 

قررت أن تسجل نفسها في ((الكونسيرفاتورا)) كي تتعّلم أصول الغناء. وكانت لها أمنية سريّة أخرى، أن تتعلّم العزف على العود، كي تعزف على العود الذي تركه والدها، وهو كلّ ما أنقذته حين مغادرتها الجزائر. كان العود أخاها في اليتم.. فلمن تتركه؟ لعمّها الذي يرى فيه أداةً شيطانية قد يكسرها ليكسب ثواباً؟ كانت ترى في ذلك العود أثمن ما ترك والدها، الذي لم يمتلك يوماً ثروة. ككلّ عشّاق الحياة، كان قدرياً، وككّل بائعي البهجة، ماترك مالاً، قضى عمره يُغني ونسي أن يَغنَى. 

لأوّل مرة، أحضرت ذلك العود من حيث خبّأته، حتّى لا يكون على مرأى دائم من والدتها، فيزيد من حزنها. أخذته إلى فراس، صديق يحترف العزف، وبإمكانه إيداعه لدى حرفي يمكنه إصلاح ما ألحقه الرصاص بالعود من ضرر. 

طمأنها فراس إلى إمكان إنقاذ العود بعد أن تفحّصه ملياً، ووجد طرافة في عودته بعد ثلاثين سنة إلى بلده الأصلي جريحاً، ليتعافى من رصاص اخترق صدره أثناء غربته. سألها وهو يعيده إلى غلافه: 

-كيف حدث ذلك؟

مَن لغير عازفٍ بإمكانها أن تحكي تلك القصّة. 

قصّة أبيها الذي مات ذات مساء، وهو عائد من حفل زفاف كان قد غنّى فيه. إحدى فرق الموت وضعت نهاية لصوته. آخر موسيقى سمعها.. موسيقى الرصاص. كان برفقة أحد العازفين في طريقهما إلى السيارة. سقط كلاهما متّكئاً على آلة عزفه. 
153

عندما جاؤوا بجثمانه مع العود، حمدت الله أنهم لم ينسوا عوده أو يسطوا عليه. رغم المصاب وتدفّق الناس على بيتهم، حال سماع الخبر، حضرتها فكرة إخفاء العود. ربما عاد أحدهم لكسره، أو لمواصلة إطلاق النار عليه، فلعلّ رصاصة واحدة لاتكفي، وينبغي إفراغ مسدّسٍ في تلك الآلة الشيطانيّة. 

كان العود قد اقتسم الرصاص مع سيّده، كما يقتسم حصان النيران مع صاحبه في معركة. وكما يعود حصانٌ جريح حاملاً جثة صاحبه، عاد العود إلى البيت، معلناً موت مَن ظلَّ رفيقه مدى ثلاثين سنة، منذ أيام حلب يوم قصد أبوها سوريا لتعلّم الموسيقى، فكان أوّل عود اقتناه بالتقسيط لفخامته. 

من الأرجح أن يكون أبوها قد احتمى بالعود، أو أن العود حاول أن يفديه، ويرّد عنه الرصاص، فما استطاع بصدره الخشبي أن يتلقى عنه سوى رصاصة واحدة، وذهبت اثنتان نحو رأس والدها فسقط متكئاً عليه. 

ما كان لأبوها عداوات. لم يهدده أحد، ولا جادل يوماً أحداً. لكنّ الموت كان يثرثر من حوله. هل كان اغتياله بسبب غنائه قبل أيام في زفاف ابن أحد الموظفين؟ أم أن موته كان مبرمجاً من قِبل جماعة تعرف عاداته، وتفاصيل تنقلاته، وساعة عودته. 

كان يمكن للقتل أن يكون لأي سبب، ويمكن للقاتل أن يحمل أيّ وجه. فالكلّ يشكّ في الكلّ. وكلّ دم مستباح، حتّى دم الأقارب والجيران، ما دام القاتل مقتنعاً بأنّه يقتل بيد الله لا بيده. 
154

ذهبت شكوك أمها نحو جارهم، شاب في أواخر الثلاثين، عاطل من العمل، أو لعلّه يعمل لحسابه الخاص رجل تحرّ بدوام كامل، متكئاً على الجدار المقابل. مثله مثل بعض من، لسببٍ ما، يقتلون الوقت بقتل الآخرين. تدريجاً تغيّرت تصرّفاته، وبدا لصمته المريب يوحي بالحذر. ماذا يفعل شاب تزوّج للتوّ طوال الوقت في الشارع؟ صحيح أنه يقيم عند أهله، ولكن.. أليس له نهار ولا ليل؟ ثمّ إنّ زوجته لم ترافق والدته لتقديم العزاء. ادعت أمه أنه تعذر عليها الحضور بسبب حملها. لعلّ أمّه حضرت عن إحساس صادق بالحزن، ولا تتوقع أن يكون ابنها هو القاتل، لكنه مارس سلطته على زوجته المبرقعة، لمنعها من أن تُعزّي في مغنً يُروّج لـ((بضاعة الشيطان)). 

ثمّ كيف أنّ هذا الشاب الذي كان يستوقف ابنها ليحدثه طويلاً في الشارع، قبل أن يلتحق علاء بالإرهابيين، لا يرى من الواجب أن يسلّم عليها عندما تمرّ بمحاذاته بالشارع، وهي في عمر أمّه، بل يتحاشاها كما لو كانت نبتة نجسة؟ 

أصبح للقاتل اسم لدى أمّها، لكن وحده قلبها يملك الأدلّة، فوحده، لإحساس غامض، لا يقوى على رؤية عمّار. ثُم فجأة، اختفى عمار بعد أيام من مقتل والدها، ولم تجرؤ أمّها على سؤال والدته. أين اختفى؟ هل هو مخطوف؟ مقتول؟ أم مقاتل تحت ألوية المجرمين؟ لا أحد يسأل أين يختفي الشباب فجأةً. فقط عندما يموتون يعلم الناس بذلك. 
155

بعد عام، نزل عمّار من الجبال ((أميراً)). رفعته جرائمه إلى مقام ((أمير كتيبة)). عاد مع التائبين، مغسول اليدين من جرائمه، بحكم قانون العفو العام. لكن من يغسل قلب أمّها النازف؟ وأيّ قانون ينسيها ترمّلها وثكلها؟ ماذا لو كان عمّار خلف مقتل علاء أيضاً، كما كان خاف التحاقه بالإرهابييّن؟ إن لم يكن يد القتلة، فهو عينهم. 

لعلّ ما روته لفراس، وهي تُعري وجدانها في حضرته، أكسبها صديقاً في وسطٍ لا صديق لها فيه. أصبحت تهاتفه وتلتقيه بين الحين والآخر، مذ وجدت منه تعاطفاً مع مأساتها. هو يملك خصالاً رجوليّه تعشقها، كما أنه من حلب، مدينة أخوالها، وهي سعيدة بوجودها معه على حافة أحاسيس جميلة لا اسم لها، منها أنه يذكّرها بعلاء. 

اقترح فراس أن يبدأ بتقييم مدى استعدادها للعزف، وأن يتابعها في البداية، ثم يوجهّها نحو صديق يراه أفضل منه لمهمّة كهذه. استنتجت أنه يتمنّى أن يراها أكثر. 

قال: 

- مكنني إن شئت أن أساعدك، لكن ذلك يحتاج إلى أن نلتقي مرتين في الأسبوع، انت في حاجة إلى كثير من الإصرار والمثابرة، فليس العزف أمراً سهلاً إن لم يُباشَر على صغر، لكن إن كنت جادة، فستنجحين، لأن علاقتك العاطفية بهذا العود ستجعل منه آلة سحرية في يديك.. إنها آلة تشبهك. 

سألته متعّجبة: 

-تشبهني؟ كيف؟ 

أجاب: 

-يُحكى أن العود سئل هل ثمّة آلة موسيقية أجمل منه، وأشدّ تأثيراً على الروح، فأجاب بغرور وهو يردّ رأسه إلى الخلف ((لا)). من ذلك اليوم ورأسه معقوف إلى الوراء بكبرياء. 

ضحكت. أحبّت غزله الموارب. 
156

غادرته سعيدة. كانت قبل ذلك اللقاء، كعود غير مشدود الأوتار، لم تضبط أوزانه. لكأنّ فراس أعاد دوزنتها عنفواناً، وساعدها على إبقاء رأسها مرفوعاً. 

*** 

كان أكثر انشغالاً من أن يتنّبه لقطيعتها الهاتفّية. حاول الاتصال بها مرّتين ولم تردّ، ظنّ هاتفها على الصامت، توقّع أن تعاود مهاتفته، لكنّها لم تفعل، وعندما امتّد صمتها إلى أن قارب الشهر، بدأ يساوره الشكّ. أتكون تعمّدت أن تُطيل انتظاره؟ أيُعقل أن تجرؤ على أمر كهذه؟ هو الذي تتهافت الاتصالات عليه؟ 

عادةً، عدم الردّ هو ترفه الشخصيّ، والاختفاء لأيّام، ثم العودة دون تقديم عذرٍ أو اعتذار، لعبة يتقنها. بل هي عادة اكتسبها بحكم مشاغله، كما مزاجه. هو يحتاج إلى مسافة للاشتهاء، إلى الانسحاب من أجل الشوق المستبدّ مداً وجزراً.. وصلاً وهجراً. لكنه من كان يأخذ المبادرة دوماً ذهاباً وإياباً، ولم يحدث لامرأة أن أحالته إلى هاتف خارج الخدمة. 

حاول أن يستعيد تفاصيل موعدهما الأخير، لعلّه يعثر على سببٍ لعتَبها. أيكون ندماً متأخّراً على قبلته تلك؟ يدري أنّ له شفتين مجرمتين، بإمكانهما اغتيال امرأة بقبلة، لكنّه كان أيضاً سيغتالها لو أنه لم يقبّلها! 

لعلّها مريضة. 

راوده هذا الاحتمال. في الواقع كان معنياً بالعثور على ذريعة مشرّفة للاتّصال بها، أكثر ممّا هو معنّي بصحتها. إنّه الفضول. 
157

رفع السمّاعة وطلب رقمها. لم يصدّق السرعة التي ردّت بها. لكن بعد كلمتين وجد نفسه أمام صوت آخر: 

- ألو.. أيوه.. أهلين. 

هذه ليست لهجتها ولا هو صوتها، وهو غير مهّيأ لمفاجأة كهذه. -ممكن أحكي مع هالة من فضلك؟ 

-هالة مسافرة. مين بقلّها؟ 

السؤال أنساه مفاجأة خبر غيابها. لكنّه دوماً وجد الحيلة المناسبة في موقف كهذا. 

- أنا صحافي من تلفزيون C B S أودّ الاتّصال بها بخصوص لقاء تلفزيوني.. 

أعطاها اسم قناة أجنبية تفادياً للأسئلة، ماتوقع أن يخدمه هذا الخيار. 

- هي في فرنسا منذ ثلاثة أيّام. يمكنك معاودة الاتصّال بها. 

- عذراً، لكّنني أحتاج إلى أخذ موافقتها في أقرب وقت لهذا اللقاء. أتعلمين متى تعود؟

- ليس قبل عشرة أيّام، لقد رافقت خالتها لإجراء عمليّة في باريس. 



ردّ متعجّباً: - باريس؟ 

أجابت: 

- لا أحد كان يستطيع مرافقة خالتها. وحدها تملك تأشيرة سفر إلى فرنسا. 

- هل ثمّة طريقة للاتّصال بها؟ 

- لا أملك إلّا رقم هاتف فندقها. 
158

- لا بأس، أعطيني إيّاه من فضلك. سأهاتفها كسباً للوقت. 

أغلق السمّاعة وضحك في سرّه، وهو يُعيد مفكّرته إلى جيبه وعليها رقم هاتفها ورقم غرفتها. 

لا أكثر سذاجة من النساء. غبيّة قبل أن تُجلسها على كرسيّ كهربائي للاعتراف، تتطوّع بإعطائك من المعلومات أكثر ممّا تتوقّع. وأخرى تعتقد أنّها، حيث هي، أبعد من أن تطالها. في الواقع، ما توقّع تلك الصغيرة والغريبة قادرة على الهجران، ولا تنبّه لقدرته على الوقوع في شرك المسافة التي تفصله عنها. المسافة؟ سيحطمها غداً. 

راح يحشو غليونه ويبتسم. يحلو له منازلة هذه الفتاة. فليكن، سيواصل معها لعبة التحدّي. 

اليوم التالي، رنّ الهاتف في غرفتها بالفندق. كانت منهكة وجائعة. غادرت الطاولة الصغيرة التي كانت تتناول عليها ما أحضرته في طريقها من طعام إلى العشاء، ورفعت السمّاعة وهي تواصل قضم مافي يدها. ما كانت على عجل، فهي لا تنتظر اتصالاً من أحد. لقد غادرت للتوّ خالتها في المستشفى ووضعُها في تحسّن. كما توقّفت في الطريق لتكلّم أمها من مقصورة هاتفيّة كما تفعل كلّ يوم. حتماً لم تتوقّع أن يأتيها ذلك الصوت في تلك الساعة.. على هاتف الفندق! 

-كيف أنتِ؟ 

كادت لهول المفاجأة أن تختنق بما تأكل. فقدت صوتها للحظات، وجلست من الصدمة على حافة السرير، غير مصدّقة رنّة صوته العائد بعد شهر من الانقطاع. 
159

- هل تقضي إقامة طيّبة من دوني؟

لم يحضرها أيّ جواب. ردّت بما بقي فيها من نزوع للتحّدي: 

-حتماً.. 

-أتمنّى ذلك. 

-أمّا أنا، فلا أصدّق أمنياتك. لقد سبق أن بعثت لي بهذه الأمنية ذاتها مع باقة توليب، يوم زيارتي الأولى لباريس قصد تعكير إقامتي. 

ردّ بتهكّم: 

-تعنين يوم أخلفت موعدك الأوّل معي. 

-إن شئت.. لكن أخبرني أوّلاً كيف حصلت على هاتفي؟ 

-دوماً حصلت على ما أريد. 

فعلاً.. لا ينقصك الغرور. 

-بل يحدث أن أتواضع. 

-تعني التواضع كأعلى درجات الغرور. 

ضحك: 

-أتكونين قاطعتني بسبب تواضعي؟ 

-ولأسباب أخرى أيضاً. 

-أتمنّى أن أعرفها منك حين نلتقي. 

-نلتقي؟ أنت تمزح حتماً.. نحن لا نبحث عن الشيء نفسه! 

-ومن أدراك؟ 

-أنت رجل باذخ المهمّات، دائم الانشغال، لا وقت لك للحبّ. 

تهاتفني في مساء الضجر، وتريدني أن أنتظرك ما بقي من عمر! 

-هذه المرّة لن تنتظريني أكثر من يوم. سأحضر غداً إلى باريس وأصطحبك للعشاء في مطعم جميل. 
160

أصابتها فكرة مجيئه بالذعر، فهي غير مهيّأة إطلاقاً لذلك، ما أحضرت معها ثياباً تليق بلقائه، ولا تريد أن يرى الفندق المتواضع الذي تُقيم فيه. ثم إن يوماً واحداً لا يكفيها للاستعداد لحدث كهذا. عليها أن تذهب عند الحلاّق، وتطلي أظفارها، وتخلع ((ثياب الممرّضة)) التي لبستها لمدّة اسبوع، وتذهب لشراء مايليق بلقائه. 

قرّرت أن تخرج من الورطة بمواصلة المضيّ عكس قلبها: 

-لا أرى قدومك مناسباً هذه الأيّام، وفي جميع الحالات لن أتمكّن من لقائك. أنا أنام باكراً في الليل لأنّ أمامي كلّ يوم نهاراً طويلاً. 

ردّ ممازحاً: 

-امرأة لا ليل لها.. كيف يكون لها من نهار؟!

-من قال لك إنّ لي نهاراً؟ 

-إذاً فليكن لك ليل.. أنت في باريس ياعزيزتي. 

-أنا في السرير ولست في باريس. من تعبي لا رغبة لي إلّا في النوم.. كأنني جئت أغيّر الأسّرة لا المدن! 

-لا تقولي إنّك ستنامين فوراً.. كم الساعة الآن عندك؟ 

-إنّها الثامنة والنصف.. نحن نسبق بيروت بساعة. 

أخذ بعض الوقت كما لو كان يدقّق في ساعته ثم قال: 

-في ساعتي أيضاً الثامنة والنصف.. غريب. 

ردّت بتعجّب: 

-أيكون التوقيت قد تغيّر؟ ما أدراني، مذ جئت فقدت علاقتي بالزمن كأنني هنا منذ قرن. 
161

كانت تواصل الحديث إليه عندما دقّ باب غرفتها. ما كانت تريد أن يقطع عليها أحد سعادتها. خافت أن يُنهي المكالمة، ويضيع منها كعادته لأسابيع أخرى. لم تجد بداً من الاعتذار منه لتستبقيه على الهاتف. قالت ممازحة: 

-لم أطلب شيئاً من خدمة الغرف.. أتكون بعثت لي بورد مثلاً؟

ردّ ضاحكاً: 

-لا.. ليس هذه المرّة! 

-لا تقطع، أعطني دقيقة فقط لفتح الباب. 

ردّ: 

-لاتهتمّي.. أنتظر. 

لم يقطع الخط، لكنّه قطع أنفاسها.. كاد يُغمى عليها وهي تراه أمامها. أغلق هاتفه الجوّال واعاده إلى جيبه. ثم ألقى نظرة إلى ساعته وقال وهو يُطلعها على الوقت: 

-لم يحدث أن كنتِ أكثر دقّة.. إنّها الثامنة والدقيقة الواحدة والثلاثون! 

لم تدقّق في ساعته. كلّ شيء فيها شهق.. وكلّ شيء فيه ابتسم! 

نسيت أن تنظر إليه، أن تسلّم عليه بيدها أو بشفتيها.. أو بنظراتها. ما كان لها من عينين إلا لما يراه خلفها من تواضع غرفتها. 

يا الله كيف فتحت له الباب في هذه الهيئة. ليتها وضعت شيئاً من الحمرة على شفتيها، شيئاً من الماسكارا على رموشها. لو أنّها مشّطت شعرها على الأقلّ.. لو كانت ترتدي ثوباً جميلاً للبيت. لكنها ما زالت بثياب ((الممرضة))، وليس لليلها من ثوب يليق باستقبال رجل. 

رجل! تباً له من رجل.. ما الذي جاء به حتّى غرفتها؟ 

غرفتها! يا الله.. إنه الآن ينظر إلى كلّ شيء بائس وبشع خلفها، ويتأمّل فوضاها وبقايا العشاء المتواضع على طاولتها.
162

هل تدعوه ليدخل؟ هل تستبقيه عند الباب؟ هل تطرده؟ هي تسأله بأيّ حقّ؟ وبأيّ صوت تقول شيئاً من كلّ هذا، وقد ضاع صوتها منذ تسمّر أمامها. 

أين هي تلك الكمّامات التي يقولون في الطائرات إنها تسقط تلقائياً عند انخفاض الأوكسجين؟ لماذا لا تسقط إحداها الآن وتدركها قبل أن تسقط هي منهارة عند عتبة الباب! 

لكنه هو من أدركها وقال: 

-أنتظرك في السيّارة.. غيّري ثيابك وانزلي. 

من حيث هو، في نصف نظرة، ألقى نظرة شاملة على الغرفة. لمح السّماعة على السرير مفتوحة كما تركتها. قال مبتسماً وهو يطلب المصعد: 

-لاتنسي أن تغلقي السمّاعة قبل أن تغادري! 

أغلقت باب الغرفة خلف ابتسامته الماكرة، ووقعت للحظات مذهولة خجلةً كأنه رآها عارية ومضى. 

هو ماجاء ليرى عُري إمكاناتها – لقد عرف من عنوان الفندق وعدد نجومه كلّ شيء – بل جاء ليريها ما بإمكانه أن يفعل ((من أجلها)). هل فعل هذا حقاً من أجلها؟

حتماً هو ينازلها في كلّ ما يقوم به. ولم تسأل نفسها هل فعل ذلك حباً بها أم تحدياً لها. 

راقتها تلك المسافة التي يضعها دائماً بينه وبين خجلها، عن حياء أو عن كبرياء. كجلوسه في الصف الرابع لا الأوّل يوم كان يملك المقاعد كلّها. هو ما جاء ليدهمها، بل ليباغتها ويمضي. ما تخطَّى عتبة المفاجأة. أراد أن يحاصرها في ركن حقيقتها.. ليس أكثر. 
163

هذا رجل يستحقّ براءة اختراع في كلّ مايفعله في امرأة! 

من أين تبدأ؟ وفي أيّ اتّجاه تركض لتتهيّأ؟ لم يترك لها الخيار.. إنّه ينتظر. 

أفرغت محتويات حقيبتها على السرير. لبست وخلعت في دقائق كلّ ما في حوزتها. أخرجت عدّة زينتها لتُعيد لوجهها ما فقد من نضارة في غيابه. 

كانت على وشك المغادرة حين دقّ هاتف الفندق. توقّعته يستعجلها النزول. كانت نجلاء على الخطّ. 

-أحدهم هاتفك وطلب رقمك في فرنسا. قال إنّه صحافي من C B S نسيت أن أسأله عن اسمه.. سيتّصل بك لأمر مستعجل. 

ما كان لها من وقت لتستمع إلى مزيد من التفاصيل. أمن الممكن أن يكون هو؟ راودتها الفكرة وهي في المصعد. إنّه حتماً هو. 

رجل الإعصار العاطفيّ.. هل يعترض طريقه رقم هاتفي؟ 

كما في القصص السحريّة. عربة فارهة كانت تنتظر سندريلّا في الخارج. ما كانت تجرّها الخيول. بل يقودها الأمير العاشق نفسه. 

إنها تعيش خرافة عصرّية. تجتاز فيها سندريلا بفرح حذر باريسها المتواضعة، إلى ((الضّفة الأخرى)) للأحلام. 

ما كانت تدري أنّ للحبّ ضفّتين، حتّى اجتازت واقعها إلى ((الضفّة اليسرى)). لاحقاً ستعرف أنّ ((Ia rive gauche)) هي أيضاً اسم عطر لـ((إيف سان لوران)). 
164 

أحدث أقدم