الاسود يليق بك (الجزء الخامس) | رواية عربية




لم يسألها أين تريد أن تتعشّى في مدينة لا تعرف فيها عناوين تليق به. أثناء انتظارها في السيّارة، حجز لهما طاولة في مطعم اعتاد أن يرتاده في المناسبات الهامة أو الجميلة. يحبّ هذا الفندق المطلّ على حديقة ((التويلري))، بفخامة القرن التاسع عشر وأبّهته، بمراياه ورسوم سقفه ونقوشه الذهبيّة، بنادله الذي يشبه في بذلته السوداء ذات الذنَب، رئيساً ما للجمهوريّة الفرنسيّة.. أو قائد أوكسترا سمفونيّة. 

تناول منها ((جيسكار ديستان)) معطفها. ورافقهما نادل آخر إلى الطاولة. سحبا الكرسييّن في الوقت نفسه، وأشعل أحدهما الشمعدان الفضّي. 

سألها هل يعجبها المكان. 

تفادت مكر السؤال. 

كان لها من مباهج العشق في تلك السهرة ما يفيض على نساء العالم جميعهنّ. لكنّها، إنقاذاً لكرامتها العاطفيّة، قالت والنادل يمسك بمنديل أبيض زجاجة الماء المعدنيّ ويسكب منها في كأسيهما: 

-الحبّ انسكاب في الآخر.. وأنا لا أعرف كيف أنسكب في كأس فاخرة إلى هذا الحدّ، لكنّ المكان فاتن حقاً. أحبّ رومانسيّتك! 

ضحك ضحكته تلك وقال: 

-تعتقدين أنني رومانسي؟ 

-وهل الرومانسيّة عيب؟ 

-في العالم الثالث الدي جئنا منه، الرومانسّية تعني العشق مع التخلّف.. أي الهروب من الحياة إلى الأوهام. أنا ياعزيزتي أحبّ الحياة، أمّا الرومانسيون، فيحبّون الأوهام. 
165

استنتجت أنّها امرأة ساذجة، منخرطة في حزب المتخلّفين الحالمين، الأوفياء لأوهامهم، بنما يبدو هذا الرجل خائناً لكلّ شيء عدا الحياة. رغم توجُسها صدمة الجواب سألته: 

-هل أنت وفيّ

؟ فاجأه السؤال. ردّ ضاحكاً: 

-أعرف.. النساء يعشقن القلوب الموصدة، المحكمة الإغلاق، لرجال أوفياء لغيرهنّ. الرجل الوفيّ، رجل متنازع عليه، غالباً من أجل إطاحة المرأة التي أعلن إخلاصه لها، وترى فيها النساء إهانة لأنوثتهن، أول ما يستسلم يفقد سطوته. سأسعدك وأعلن أنّني وفيّ! 

سألته بسعادة: 

-حقاً؟ 

-إنّي سيّد من سادة الوفاء.. أخلص لما أُحبّ. 

-أتعني لما، أم لمن؟ 

جاءها الجواب: 

-لن تعرفي هذا إلّا من حدسك الأنثويّ! 

إيّ تمرين هذا؟ أرادت حشره. 

قالت: 

-حدسي يقول إنك خائن. 

ردّ ضاحكاً: 

-أخطأ حدسك مرّة أخرى. الخيانة أن تُقبل على امرأة دون شهوة أي أن تخون جسدك. لا أذكر أني فعلت ذلك. 

إنّه كلام أكبر من فهمها. كل ما أرادت أن تعرف هل يحبّها. ولا وسيلة لطرح سؤال يبدو بسيطاً على رجلٍ يتكلّم غير لغة. 
166

سألها: 

-إلى متى ستبقين في باريس؟ 

-تأشيرتي تنتهي بعد ثلاثة أيّام. من حسن حظّي أنّ خالتي تعافت. ثم، لتبرّر مارآها عليه، أضافت: 

-إنّي أُقيم في ذلك الفندق حتّى أكون قريبة من المستشفى الذي أجرت فيه العمليّة. 

قال: 

-للمناسبة، لقد حجزت لك غرفة في هذا الفندق ابتداءً من الليلة، لثلاثة أيّام قابلة للتمديد.. توقّعتك ستبقين أكثر. 

انتفضت مدافعة عن كرامتها: 

-من قال لك إنّني سأقبل ذلك؟

-إقامتك هنا ستكون أجمل. اخترت ما يليق بمقامك. 

فكّرَت أنّه اختار عنواناً يليق بمقامه، الذي لا يسمح له بحبّ فتاة تقيم في ذلك العنوان. 

قالت وقد استعادت شراستها: 

-لكنّني ما طلبت منك شيئاً. 

-الحبّ يعطي قبل أن يُطلب منه. 

كانت الأنفة تزيد من اشتهائه لها، فهو يحبّ تلك اللبؤة النائمة فيها. أمّا هي فكانت ترى في إغداقه غير المبّرر إهانة لقيم الرجولة التي تربّت عليها. حين يذّكرها بأنّها عزلاء أمام سطوة ماله، لا يجرّدها من أنوثتها بل من رجولتها. 
167

قالت بعناد: 

-لن أقيم في غير فندقي.. إنّه أقرب إلى المستشفى. 

أجاب بما يعرف أنّه سيهزمها: 

-لكنّك هنا أقرب إليّ. 

وضع في جملته ما يكفي من البوح الموارب لإطاحة صمودها.

واصل: 

-بإمكانك أن تأخذي تاكسي أو الميترو لتزوري خالتك. 

بدأ منطقه يجرّدها من شراستها. هل تعاتبه لأنه يريدها قريبة منه؟

برغم ذلك رفضت الاستسلام له بسهولة. قالت: 

-لا رغبة لي في جمع أشيائي وتوضيب حقيبتي أكثر من مرّة. كلّها ثلاثة أيّام! 

-اللهفة لا تقاس بالأيام.. توّقعتك تعدّين الدقائق. على كلّ حال، لقد حجزت لك الفندق.. قررّي ما شئت! 

أفحمها.. أربكها. بدا لها أكثر لهفة منها. 

سألته: 

-متى فعلت هذا؟ 

-عندما انسحبتُ قبل قليل. كنت أريد التأكّد من وجود غرفة شاغرة هذا المساء. تدرين، هذا الفندق هو أحد أعرق فنادق باريس، لجماله. طلب أحد النبلاء في القرن التاسع عشر أن يقضي فيه ليلته الأخيرة، قبل أن يمضي فجراً لمنازلة غريمه في غابة بولونيا، فربّما كانت آخر ليلة في حياته. 

-وهل حجزت لي فيه لأنك تنوي منازلتي؟ 
168

ضحك.. 

-لا أحتاج إلى إشهار سيف لأهزمك. ليس في حوزتي إلّا الدروع.. 

كان يدري أنّها، منذ اللحظة التي تقبل فيها عرضه، يكون قد هزمها. وكانت تجهل أنّ حبّه لا يحيا إلّا في سطوة إغداقه. في الواقع ما كان يشعر بالأمان مع امرأة ترفض سطوته. أما هي، فكانت ترى أن الحب هو الذي يمنح الفنادق نجومها، كان يكفي دخوله إلى فندقها البائس ذاك بحثاً عنها، ليرفعه الحب إلى صف فنادق الخمس نجوم. 

انتهى بها الأمر إلى الاستسلام لعرضه، إنها تعيش لأشهرٍ بعيدة عنه، مقابل ((دقائق)) تعيشها بمحاذاته، ومن الجريمة أن تفرّط في دقائق هي كلّ ما تجود به الحياة عليها. 

في خضم أفكارها نسيت ((جريمة)) الورقة النقديةّ، التي تركها فوق الحساب المدفوع ببطاقة مصرفيّة. ورقة تعادل تماماً نصف دخلها الشهري كمدّرسة. كي لا تُجنّ أو تموت قهراً، قرّرت أن تكفّ عن اعتبار دخلها مقياساً لنفقاته. 

قال: 

-سأرافقك إلى فندقك لتجمعي حاجاتك. ثم اطلبي سيّارة أجرة للعودة إلى هنا. 

اطمأنّت إلى نواياه وعجبت لها. 

-وأين تُقيم أنت؟ 

-لي بيت في باريس. 

قالت ممازحة: 

-نسيت انّك تعمل صحافي هنا في قناة C B S . 
169

ضحك. أدرك أنّها اكتشفت حيلته. 

أضافت: 

- للمناسبة ماذا كنت ستسألني في مقابلتك تلك؟ 

أجاب وهو يمشي بجوارها نحو السيّارة: 

-أوّلاً هل أنت وفيّة؟ 

-ثم؟ 

-لكنّك لم تجيبي عن السؤال الأوّل. 

-أفضّل الاطّلاع على كلّ الأسئلة قبل الإجابة. هكذا علّموني! 

-فليكن.. ثانياً، أستكونين لي؟ 

-ثم؟ 

كانا قد وصلا إلى السيّارة. قال: 

-أكتفي بهذين السؤالين، البقيّة سأطرحها عليك في وقت لا تتوقّعينه! 

قالت ممازحة: 

-من حقّي إذاً أن أجيبك في الوقت الذي لن تتوقّعه على الإطلاق! 

طوّق خصرها بذراعه التي كانت ممدودة لتفتح لها الباب. 

حشرها بين السيارة وصدره، وقال: 

-للمناسبة، يجوز الرد على بعض الأسئلة بالقُبل. 

وقبل أن تستوعب الموقف، كان قد سحبها نحوه وراح يقبّلها. 

لاتدري كم من ((نعم)) قالت له في قبلة واحدة، كن من ((بلى)) وكم من ((أجل)). 
170

استسلمت لذراعيه ولخدر النشوة. شعرت أنّها ثملة بالقُبل، بكّل الوعود التي منحتها شفتاه، لثماً وتقبيلاً. معه، لا شيء كان يبدو فضيحة، على مرأى من السماء، من نهر السين، ومن برج إيفل، أصبحت امرأة بقبلة عمرها سبع وعشرون سنة من الانتظار. 

كانت باريس ليلتها سخيّة. تتلألأ بأضواء نهاية السنة، ورذاذ مطر يحمي عاشقين من محضر ضبط عاطفي. غادرته بأحاسيس ملتبسة كما لو أنّها فقدت بتلك القبلة عذريّتها. 

*** 

ما أتعس من لم يفُز بشفتيها! 

كان يودّ وهو يرافقها بعد العشاء إلى فندقها ذاك، لو باح لها بأنّه يرثي لرجال جاؤوا العالم وسيغادرونه، من دون أن يكونوا قد خبروا قبلة كتلك. لكنّه ما اعتاد أن يفضح أحاسيسه لأحد، أو يبوح بضعفه لامرأة. هو دائم الاحتراز من الحبّ، لعلمه أنّ الذي يحبّ الأقلّ هو الأقوى. لا يذكر أنّه قال ((أحبّك)) سوى لزوجته قبل خمس وعشرين سنة، لكنّ النساء تعلّقن به برغم ذلك، لأنّه يقول تلك الكلمة في كلّ ما يفعله، بينما لا يفعل الآخرون غير قولها. 

هل يحبّها حقاً؟ 

هو نفسه لا يدري. هي شجرة يستظلّ بها، ولا يريد أن يُنبهّها إلى ثمارها فيقطفها سواه. 

يريد له وحده مرحها وصباها، ذكاء أنوثتها، براءتها، اندهاشها البكر بكلّ ماتراه معه لأوّل مرّة. 


171

يحبّ جرأتها في الدفاع عن قناعاتها، وهزيمتها حين يجرّدها من قراراتها. يحبّ نقاءها، ويشتهي منذا الآن إفسادها. هو فقط يؤجّل أوان امتلاكها. في مايخصّ النساء ما كان يوماً على عجل. هو ليس من حديثي النعمة، مائدته عمرت دائماً بما اشتهى. لذا لم يكن يفترس الحياة، كان يتذوّقها ويترك منها شيئاً على طاولة الموعد التالي. 

في الصباح، هاتفها إلى فندقها الجديد، كانت قد غادرت الغرفة. لم يترك لها رسالة صوتية على جهاز التسجيل. حتماً ما كان ليفعل. كان يعنيه فقط أن يتأكد أنها نقلت إقامتها إلى الفندق. 

حين طلبته ظهراً من مقصورة هاتفية، وعدها أن يمرّ بها مساءً ليصطحبها إلى العشاء. 

-هل أعجبتك الغرفة؟ 

ردّت مازحة: 

-تعني الجناح.. وماذا أفعل بجناح واحد؟ 

ضحك لدعوتها المواربة لرؤيته. 

قال: 

-إذاً أنا من يطير إليك. كوني جاهزة عند الساعة الثامنة في البهو سأمر لاصطحابك إلى العشاء. 

وقبل أن يضيف شيئاً، دق هاتف آخر في مكتبه فودعها على عجل. -أراك مساءً. 

كلمتان كانتا كافيتين لإحداث تلك الارتجاجات بجدران قلبها. معه هي دائماً وسط حزام الزلازل. 
172

اعتذرت لخالتها بذريعة انشغالها بالتسوّق قبل عودتها. النصف الآخر للحقيقة، كان أنّها تحتاج إلى أن تتسوّق لموعدها معه هذا المساء. لها رغبة في إبهاره. 

قررّت أن تكون سخيّة مع نفسها، أي ضنينة مع الآخرين. ما ستنفقه على كماليّاتها هو ما ستنقصه من المبلغ الذي كانت ستشتري به هدايا للأهل في سوريا. وهذا يؤلمها. لكن لا مفرّ، لا بّد أن تذهب إلى الحلاّق، وتشتري ثوباً جديداً، وخاصّةً معطفاً أنيقاً. 

كم شعرت بالخجل البارحة، وذلك النادل الشبيه بجيسكار ديستان يأخذ منها معطفها قبل الجلوس، ويضعه بجوار المعاطف الفاخرة المعلّقة. كانت تفضّل لو احتفظت به على الكرسي المجاور. ولكن كان في الأمر فضيحة أكبر.. فضيحة الجهل بالإتيكيت! 

مايعنيها حقاً هو أن تُنسيه الحالة التي رآها عليها البارحة. 

*** قبل الثامنة بدقائق، نزلت إلى بهو الفندق. لم تكن الساعة في معصمها بل في قلبها. مذ هاتفها والدقائق تركض بها. تفقّدت زينتها أكثر من مرّة. صفّفت شعرها ثم غيّرت تسريحتها مراراً. في آخر لحظة، قرّرت أن تجمعه وتسدله على جانب واحد. 

كانت تبدو جميلة، كما يليق بسندريلا أن تكون. هكذا قالت عينا الرجل الذي أخذ معها المصعد، وعيون من صادفت في بهو الفندق. جلست تنتظر قدومه، في ذلك الصالون الأرستقراطي السقف والثريات، حيث لا أحد يعرفها، ولا تتعرف هي نفسها إلى نفسها! 
173

تأمّلت السيّدات وهنّ يعبرن في كامل أناقتهنّ، والرجال الوحيدين، والآخرين المصحوبين بنساء. شغلت نفسها بالاستماع للموسيقى التي كانت تعزفها فتاة على البيانو. قصدت الحمّام، هرباً من نظرات رجاليّة، بدأت تُطيل النظر إليها. صعدت إلى الغرفة قليلاً عساه يطلبها هناك، ثم عادت ونزلت عساه يكون جاء. 

انقضت نصف ساعة على وجودها في مهبّ الأنظار والانتظار حين مرّ أحد الموظّفين بلوحة مكتوب عليها اسمها. كانت مطلوبة على الهاتف. 

على الطرف الآخر، قال صوته بنبرة أخفض من العادة: 

-عذراً.. نسيت أننا نستقبل ضيوفاً على العشاء في البيت. تعشي حيث تعشينا البارحة.. أو اطلبي عشاءً في الغرفة. سأتصل بك غداً. تصبحين على خير. 

كان واضحاً أنها مكالمة مسروقة. ما ترك لها حتّى ومضة، لوضع سؤال أو علامة تعجّب. 

كلمات وانطفأت الفرحة في عينيها وذبل توهّجها. 

عادت سندريلا إلى الغرفة تخلع بهجتها، وتغسل مساحيق أوهامها. 

دوماً يعاكس الحبّ توقّعات العشاق، هو يحبّ مباغتتهم، مفاجأتهم حيناً، وحيناً مفاجعتهم. لا شيء يحلو له كالعبث بمفكّراتهم، ولخبطة كلّ مايخطّونه عليها من مواعيد. ما الجدوى من حمل مفكّرة إذاً.. إن كان هو من يملك الممحاة.. والقلم. 
174

البارحة كما اليوم، ضحك عليها الحبّ. أمس جاءها حينما كانت في هيئة لا تليق باستقباله، فأربكها، واليوم جاء بها وتخلّى عنها وهي بكامل زينتها، بعدها قضت يوماً كاملاً في الاستعداد له. 

الحبّ؟ لا، هي تعني ذلك الرجل. أمّا الحبّ فهو يحاول الآن أن يعتذر لاستعماله الممحاة، بأن يدلّلها كي ينسيها أذى الحبيب، الذي يتحدث لأول مرة بصيغة الجمع. بمنطق الزوج الذي له حياة أخرى، وبيت آخر، يستقبل فيه مع امرأة أخرى ضيوفاً آخرين. 

أمّا هي، فهي ليست ضيفة الحبيب هذا المساء، بل عاشقة مهجورة في ضيافة الحبّ، الذي يقدمّ لها العشاء في صحون البورسلين المغطّاة بأغطية فضّيّة فاخرة، كما ليخفي عنها وجبة الحزن. 

الحبّ يسقيها الصبر في كؤوس الكريستال، يواسيها بوضع وردة على مائدة الغياب، وينسى المناديل الورقيّة للبكاء. 

إنه حبّ باذخ، لا يضع البكاء في حسبانه. كل مناديله من القماش الفاخر. 

الحبّ يضع كلّ تلك الرغوة المعطّرة في مغطس حمامّها، يُغيّر شراشف نومها، يضع قطعة شوكولا على وسادتها، مصحوبة بأمنيات الفندق بليلة جميلة. 

يسألها وهي جالسة على أريكة الأسى: 

-ماذا أستطيع من أجلك يا سيّدتي؟ 

-لا شيء، طاب مساؤك أيّها الحبّ! 

تطفئ الأضواء.. لكنهّا لا تنام. تخلد إلى اللّوم طويلاً. لا تغفر لنفسها أن تكون منحته فرصة الاستخفاف بها. كيف استدرجها ذلك الرجل إلى هذه الإهانة الباذخة!؟ 
175

صباحاً استيقظت على صوته. قال إنه في طريقة إلى المكتب، وإنه أحب أن يبدأ نهاره بسماعها. 

سألته هل له مكتب في كل بلد. وعندما ردّ بضحكة، سألته هل له في كلّ مرفأ امرأة تنتظر دعوته إلى العشاء. قال إنّه لا يشترك مع البّحارة سوى في حب البحر، وإنه لا يتقن السباحة، قالت: 

-أمّا أنا فلا أتقن الانتظار، ولا أنوي الارتباط ببحّار.. لذا سأغادر الفندق هذا الصباح! 

ردّ مازحاً: 

-لا تكوني جزائريّة.. أكلكُم عصبيّون هكذا؟ 

أجابت: 

-ستعثر على نساء جاهزات لانتظارك في بهو فندق. أنا ما انتظرت قبلك إلا القتلة. في محطة الحافلة، وفي بهو المدرسة، وفي مدخل البيت، وحتى وأنا في الصف. كنت أنتظر الموت لكن بكبرياء. البارحة فقدت تلك الأنفة وأنا أنتظرك ساعة كاملة أمام أناس فائقي الترف، لا يدرون أي طريق قطعت، للوصول إلى هذا المكان. كنت في انتظارك مجرّد أنثى.. وقد كنت في انتظار الموت رجلاً. 

ظلّ صامتاً. ما اعتاد نبرة كهذه ولا توقّع كلاماً كهذا. كان مأخوذاً بغضبها، بهذه الأنثى التي نامت قطّة واستيقظت لبؤة. إنّها فصيلة من النساء لم يعهدها. 

أجابها بأوّل ما خطر في ذهنه. لأوّل مرّة تكلّم دون اختيار كلماته. لأوّل مرّة ناداها باسمها: 

-هالة.. ما أجملك غاضبة! أحب كبرياءك، ولأنك كبيرة ستغفرين لي. لا تغادري الفندق رجاءً، سأحضر باكراً اليوم، وأصطحبك في فسحة جميلة في غابة بولونيا. أنا أمارس رياضة المشي هناك. ارتدي ثياباً مريحة وحذاءً رياضياً سنمشي كثيراً، وسأجعل كلّ الأشجار تعتذر لك. هل تقبلين اعتذار الأشجار؟ 
176

نجح في تهدئتها. قالت: 

-مادامت الأشجار أنثى.. لكنّني لا أغفر أن يخطئ رجل في حقّي! 

أغلق الهاتف وتركها أمام مشروع جديد ومصاريف جديدة. عليها الآن أن تخرج للبحث عن ثياب رياضيّة وحذاء للمشي من ماركة كبيرة طبعاً! 

يا الله.. كم هو مكلف أن تكوني عاشقة! 

على الساعة السادسة بالضبط حضر سيّد الحضور العاصف، وانطلقت بهما السّيارة نحو غابة بولونيا. 

برغم البرد، كان كلّ شيء يبدو جميلاً، كقصيدة شتويّة. كما لو كانت كلّ الكائنات تتودّد للعشّاق، أو تتودّد له هو بالذات. أيكون اشترى ودّها؟ الأشجار التي يعرف أسماءها ونسبها، ومواسم اخضرارها، ومن أي من بلاد الله الواسعة جيء بها. 

هو الذي ما كان يجود عليها سوى بدقائق على الهاتف، يبدو أنّه منح الأشجار متّسعاً من الوقت، كي تتسنّى له قراءة كلّ لوحة (حديديّة) سُمّرت على شجرة. 

كان، وهو يمشي معها على ضفاف البحيرة التي تتزلج عليها بعض البطّات، يُسمّي لها الأشجار واحدة واحدة، كما لو كان يُعرّفها إلى إناث سبقنها إلى قلبه. 
177

قالت ممازحة: 

-لن تكون المنافسة صعبة إن كانت هذه الأشجار نساءك! ردّ بالدعابة ذاتها: 

-برغم ذلك لا تطمئنّي تماماً لرجل يهرب من البشر إلى الشجر! 

-كنت أعني أنّ الرجال يستعرضون عادة على امرأة تدخل حياتهم، أسماء النساء اللائي سبقنها إلى أسرتهم، وأجد طريفاً أن يكون في ماضيك حريمٌ من الأشجار. 

-ليس من الرجولة الخوض في حضرة امرأة في موضوعين: المال و ((الفتوحات الرجاليّة)). وحدهم الأثرياء الجدد يتبجحون بثرائهم.. والمحرومون من صحبة النساء يباهون بعلاقاتهم. 

-لعّلك إذاً شبعت نساءً؟ 

ردّ ضاحكاً: 

-وربّما شبعت أشجاراً! 

-حقاً؟

-طبعاً.. على الأقلّ بحكم عملي في صناعة الورق. 

-وما الذي أوصلك إلى هذه التجارة؟ 

-يكفي أني أقمت في البرازيل حيث رئتا العالم. أشسع الغابات توجد هناك، وأيضاً مصانع الخشب والورق. 

-أي إنّك تدلّل الأشجار هنا، وتغتالها في مكان آخر! 

-لست من يغتالها. أنا أقدّم الورق لكي يقرأ الناس الأوديسة، وملحمة جلجامش، وفولتير، والمتنبّي، وجبران. المجرمون هم الذين يحتاجون إلى مسح غابة عن وجه الأرض لنشر كتب لن يقرأها أحد.. 
178

ولطبع جرائد بأوراق فاخرة نصفها محجوز للتهاني والتعازي ولبزنس الأفراح والموت.. ومجلاّت فخمة لا يمكنك حملها، مختصّة بنشر أخبار ((أمراء الصور)).. الذين يدّعون، برغم ذلك، دفاعهم عن البيئة. 

قالت مازحة: 

-أنت تأتي هنا إذاً لتعتذر للغابات. 

جاء جوابه قاطعاً: 

-لم يحدث أن اعتذرت! 

كانت نبرته جازمة. لولا وقْعها الجاد لخالته يمزح. 

لاحقاً فقط، ستختبر كم كان صادقاً في قوله هذا. الآن هي لا تتعمق كثيراً في ما يقوله. سعادتها به تشلّ تفكيرها. لم يحدث أن كان أكثر تلقائيّة وصدقاً ممّا هو اليوم، ولا كانت أقرب إليه ممّا هي هنا. 

لكأنّ الطبيعة ساوت بينهما، خارج الفنادق والمطاعم الفاخرة. هو الآن مثلها في ثيابه الرياضيّة، يتقاسم معها بالتساوي الهواء النقي، في غابة ساحرة، هي حسب القانون الفرنسي ملك كلّ من يتنزّه فيها. 

قالت متحسّرة: 

-تدري.. مذ اختار الإرهابيّون في الجزائر الغابات مخبأً لهم، غدت كلمة غابة بالنسبة لي مرادفة للرعب. لو لم أكن سأسافر لترددت إلى هذه الغابة كلّ يوم. يا لجمالها الأخّاذ! هذه أوّل مرة منذ عدّة سنوات، أمشي بين الأشجار بطمأنينة وسعادة. كم كنت أحتاج إلى هذا! 

ردّ: 

-إنّي في مفاوضات لشراء شقّة غير بعيدة من هنا. بإمكانك في المستقبل إن شئت، الإقامة فيها عندما تزورين باريس. 

ردّت بسعادة: 
179

-إنّه حيّ جميل حقاً.. فكرة جيّدة أن تنتقل للإقامة فيه. 

-الحيّ الذي أسكنه جميل كذلك. هذه ستكون شقّة لضيوف الشركة حين يزورون باريس. 

-أتوقع أن يكون بيتك فائق الجمال، ما دُمت تفضّله على بيت في هذه المنطقة. 

أجاب وقد التقط نبرة حزنها: 

-البيت يصنع جماله من يقاسموننا الإقامة فيه. 

استنتجت أنّه غير سعيد مع المرأة التي تقاسمه إيّاه، وراحت تصنع من تعاسته المفترضة خبث سعادتها. قالت: 

-كم أتمنّى التردّد إلى باريس.. لولا المشاغل التي تنتظرني في الشام. 

-مثل ماذا؟ 

-لي حفلان في الشهر المقبل، يجب أن أستعدّ لهما حال عودتي. بعض الأغاني جديدة وتستدعي عدّة بروفات، خاصّة أنّني سأغنّي لأوّل مرّة في الخليج.. -وهل زرت فيينا؟ 

-فيينا؟ لا. 

-سأصطحبك إليها ذات مرّة. خذي الموسيقى من منبعها، لا من هذا الزعيق الذي يسمّونه اليوم غناءً. كيف لأناس لا يعرفون سولفاج الكون أن يغنّوا! وكيف لمن لم يتدرّب على الصمت أن يصدح! 

-أتغنّي؟ 

-لا. أنا أصغي. لذا أعتبر نفسي أفضل من كثير من المطربين. إنّ مستمعاً جيداً أفضل من مطرب سيّئ! 
180

-صدقت. 

-تعلّمي الغناء من الإصغاء إلى حفيف الكائنات، كما الآن.. أصغي إلى صمتك وأنت تمشين في هذه الغابة.. بالصمت نعرف متى يكون الوقت صحيحاً أو خاطئاً في الموسيقى.. كما في الحياة. 

-كيف تعرف هذا؟ 

ضحك. 

-أعرف ماذا؟ متى يكون الوقت صحيحاً؟ 

-أعني كيف تعلّمت هذا؟ 

-بعضه من الكتب، وبعضه من التأمّل، لا يمكن أن تمضي بعيداً في الحياة، إن لم تضبطي إيقاعك. الإيقاع يمنعك من أن تنّشزي أو تلهثي، أو تمضي في كلّ صوب. الناس الذين ترينهم تائهين في الحياة، لم يأخذوا الوقت الكافي لضبط إيقاعهم قبل أن ينطلقوا. أي إنّهم لم يخلدوا قليلاً إلى صمتهم العميق، ليُدوزنوا خطاهم قبل الانطلاق الكبير. 

-أقرأت هذا؟ 

-بل خبرته.. ما قرأته هو أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الموسيقى هي الصوت. حتى جاء بيتهوفن واستلهم موسيقى الصمت. تدرين أنّ الموسيقى الغربّية لا وجود للصمت فيها. 

قالت كمن عثر على اكتشاف: 

-ربّما يكون لترتيل القرآن الفضل في تعليم العرب ضرورة الصمت في الإنشاد. إنّ وقع الصمت بين الآيات له على النفس وقع الآية نفسها. وهو يطول ويقصر حسب ما يريد أن يحمّله المقرئ من معانٍ. لذا لا يمكن اعتباره صمتاً بل ترتيل أيضاً. 
181

واصلت: 

-لا أدري، أنا أقول هذا اجتهاداً، أفكر في ذلك الصمت الطويل الذي تتركه أمّ كلثوم مثلاً بين جملة غنائيّة وأخرى. إنّ مطربي جيلها مثل مطربي جيل أبي، كانوا منشدين ومقرئين أيضاً، لذا جعلوا من الصمت بين وصلتين أعلى درجات التجلّي الروحي. 

توقّف فجأة عن المشي وقال: 

-لم يحدث أن استمتعت بحديث كما معك الآن، تدرين.. أحتاج إلى ذكائك لأشتهيك. 

لاحظت أنّه لم يقل لأحبّك. 

ردّت بخجل: 

-لا أظنّني ذكيّة إلى درجة الاشتهاء، أنا أجاريك في التفكير ليس أكثر. قلما وجدتُ أحداً أتحدث معه بعمق. الذكاء في النهاية تمرين، وأنا قضيت عمري في التمرّن على قمع ذكائي، حتّى لا يزيدني شقاءً! 

توقّف عن المشي وقال وهو يمرّر يده على شعرها: 

-لن تشقي بعد اليوم.. سنلتقي كلّما استطعت، أنا أيضاً أحتاج إلى أن أتحدّث إليك. 

تمنّت لو قال ((أحتاج إليك)). حاولت استدراجه إلى تلك الكلمة. 

قالت: 

-أحب أن تحتاج إلىّ.. الحبّ احتياج. 

صحّحها وهو يضمّها إليه: 

-بل الحبّ اجتياح! 

راحت شفتاه تجتاحانها على مرأى قبيلة من الأشجار، كأنما قُبلته درس تطبيقيّ لما قاله. 
182

بدا لها أن قُبلته طالت حدّ احمرار أوراق الشجر استحياءً.. وغيرة، وأنّه حين توقّف عن تقبيلها، كانت الفصول الأربعة بربيعها وأعاصيرها قد عبرتها في بضع دقائق. 

لم تقل شيئاً. شفتاه تسرقان دائماً صوتها. 

ولا هو كسر بينهما نشوة لا نبلغها إلّا حين توغُلنا في الآخر صمتاً. أوصلها إلى الفندق وإحساس واحد يسكنه. كم كان يلزمه من شفاه، ليلثم في امرأة واحدة كلّ أنوثة الكون! 

*** 

أجمل لحظة في الحبّ هي ماقبل الاعتراف به. كيف تجعل ذلك الارتباك الأوّل يطول. تلك الحالة من الدوران التي يتغير فيها نبضك وعمرك أكثر من مرة في لحظة واحدة.. وأنت على مشارف كلمة واحدة. 

مرات كثيرة كادت تلفظها، لكنها مثله لم تقلها. هو قال ((بالصمت نعرف متى يكون الوقت خطأ أو صحيحاً في الموسيقى)) وخارج الموسيقى كيف نستدل على الوقت المناسب تماماً، لقول كلمة واحدة، لا تعود بعدها الكلمات ما كانته من قبل. يقول فيكتور هيغو ((بعد الاعتراف الأول، لا تعود كلمة أحبّك تعني شيئاً)). لذا دافع كبار العشاق، عن شرف الكلمات ((البكر)) التي خُلقت لتلفظ مرة واحدة. فبالنسبة لهؤلاء كلمة ((أحبك)) حدث لغوي جلل. 

يا للمسؤوليّة! لهولها سعدت أنّها لم تقلها له، ولا هو قالها. لكنّ قبلها سمع ما سكت عنه. كتذمّره المستتر من الحياة الزوجيّة. 
183


دهمها شعور بالإثم، لا تريد أن تأخذ رجلاً من امرأة أخرى، ولا أن تتقاسمه معها. لا تدري في هذا الحبّ في أيّ درجة من سلّم القيم تقف. تؤرّقها الأسئلة، وتفسد عليها نومها. على سعادتها، هي ليست راضية عن تصرّفاتها، تشعر بأن شيئاً فيها بدأ يتشوّه. 

برغم ذلك، حين عادت إلى الشام صاحت نجلاء مبتهجة وهي تراها مجدداً: 

-ماذا فعلت لتشعّي بهاءً هكذا؟ 

تضحك.. تقسم.. تؤكّد. 

-والله لا شيء. 

-عدا عملك ممّرضة ماذا فعلت خلال عشرة أيّام؟ 

-تعنين خلال ثلاثة أيّام.. الحبّ يأتي متأخّراً دائماً! 



إنّها بحاجة إلى أن تروي لأحد ما حلّ بها. 

لكنّنا لا نعرف كيف نروي الحلم عندما نستيقظ منه. لا شيء فيه يشبه مانعيشه عادة. مذ عادت من باريس، وهي تعيش في منطقة حدودية متحركة ذهاباً وإياباً، بين الأحلام والواقع. بين ما عاشته معه وماتعيشه بعده. تكاد تشكّ أن ذلك حدث. لولا أنّها أحضرت معها من ذلك الفندق الفاخر، تلك التفاصيل الصغيرة التي توضع في حمّامات الفنادق، من صابون معطّر لماركات كبيرة ولوازم الاستحمام وخفّ أبيض أنيق. ليست قيمتها المادّيّة التي تعنيها، بل القبض على الحلم. كما في قصّة سندريلا بقي لها من الفندق ذلك الخفّ لا تريد أن تنتعله: تخاف عليه أن يهترئ. ما دام في كيسه الورقيّ اللامع بإمكانها انتعاله في أحلامها متى شاءت. 
184

كانت تتوّرط في هواية موجعة. هي لا تدري بعدُ كم ستجمع بعد ذلك من خفاف لفنادق فاخرة ستزورها معه، وأنّها ذات يوم ستغادر أحلامها بـ((خُفي حُنين))! 

صاحت نجلاء: 

-لا! كان هو إذاً ذلك الرجل الذي هاتفني؟ كم جميل أن ينتحل عاشق صفة ليفاجئ حبيبته! 

-لم تكن مفاجأة بل ((مفاجعة))! غُشي عليّ وأنا أراه عند باب غرفتي، في ذلك الفندق البائس، ليتك أخبرتني بهاتفه. 

-وما أدراني به.. ثم هو يعلم أنّك لست ثريّة. 

-وأصبح يدري الآن كم هو قويّ، إنّها سطوة المال. عندما يُخرجك أحدهم من فندق بنجمتين ويسكنك غصباً عنك فندقاً فوق النجوم. 

-أهذا مأخذك عليه؟ أتريدين عاشقاً بائساً كأولئك الذين تركتهم في الجزائر. بؤسهم كان ينعكس على ملامح وجهك.. انظري الآن كم أنت جميلة. ليس السخاء المادّي بل السخاء العاطفي، حبّ هذا الرجل يجمّلك! 

-لم ألتقه في باريس سوى ثلاث مرّات، كيف له أن يجمّلني! 

-طبعاً.. هناك حبّ يجعلنا أجمل وآخر يجعلنا نذبل. ثمّة رجال يبثّون ذبذبات سلبيّة غصباً عنهم، يأتونك بكآبتهم وهمومهم وعقدهم وعليك أن تنتشليهم بالحبّ من وحل أنفسهم. وهؤلاء لا أمل منهم، تمدّين لهم يد النجدة على أمل أن تكسبي رجلاً، فإذا بالرجل يتشبّث بتلابيبك حدّ إغراقك معه في بركة مياهه الآسنة. 
185

لكأنّ نجلاء تعرف عن هذا الرجل، الذي لم تحدّثه سوى جملتين على الهاتف، أكثر ممّا تعرف هي. إنّه لا يشبه أحداً ممّن التقيتهم من الرجال. هذا الرجل شلّال حياة، نهر يجرفك، يدفعك إلى مجاراته في مسابقة نفسك لبلوغ ما لم تتوقّعي بلوغه. أنت معه في تحدٍّ دائم لتلحقي به.. أو لتطاليه. 

قالت وهي تتأمّل نجلاء: 

-ربّما كنت على حق. 

-أنا حتماً على حقّ. الفشل مُعد تماماً كالنجاح، والسعادة مُعدية تماماً كالكآبة، وحتى الجمال مُعد. إنّ رجلاً جميلاً وأنيقاً ينقل لك عدواه ويُجبرك على أن تضاهيه أناقة حتى لا تخسريه، وألّا تهملي مظهرك حتّى لا تبدي غير أهل له. لذا عليك قبل أن تُقبلي على حبّ رجل، أن تدركي العيوب التي ستنتقل إليك بعد الآن بحكم العدوى. 

صاحت: 

-يا الله.. لا تذكّريني بالأناقة. أيّ فضيحة كانت عندما دعاني إلى العشاء وما كان في حوزتي ما يليق بالمناسبة. 

-كيف تسافرين من دون أن تحسبي حساباً لمناسبة كهذه؟ 

-تدرين في أي ظروف سافرت. ما أدراني أنّه سيأتي.. كأنّني بخّرت له، لا أدري من أين يطلع لي هذا الرجل كالجنّ أينما كنت. 

-عليك إذاً أن تكوني في قمّة أناقتك بعد الآن وكأنّك ستلتقينه أينما حللت، وأن تكون لك ثياب تليق بمرافقة رجل من مقامه.

-تدرين.. قرأت يوماً قولاً جعلني أحسم أمري في ما يخصّ موضوع الثياب. -ها.. هاتي لنسمع! 


186

-((لا تحاول أن تجعل ملابسك أغلى شيء فيك حتّى لا تجد نفسك يوماً أرخص ممّا ترتديه)). 

-جميل.. حتماً قرأته يوم كنت مدرّسة. لكنك الآن ياعزيزتي نجمة، وإن لم تتبرّجي وتنفقي كما تنفق النجمات على أزيائهنّ، فستجدين نفسك، على غلاك، أرخص منهنّ، وأرخص من صوتك. هكذا يقول منطق السوق، ثم بربّك، أما آن لك أن تخلعي الأسود؟ 

-أتدرين كم من المشاهير ارتدوا الأسود طوال حياتهم وما زادهم إلا تميزاً؟ باكو رابان، إديث بياف، جولييت غريكو.. 

قاطعتها: 

-ولكنك لست هؤلاء، ولا أنت في فرنسا.. أنت في الزمان والمكان الخطأ. العصر الآن للبهجة. 

قالت كما لتنهي الحوار: 

-لا تحاولي معي عزيزتي فأنا لن أخلعه. 

حتماً لا تنوي خلعه. هو نفسه حين رآها في زيّ رياضي سماويّ اللون اشترته لتلك النزهة في الغابة قال لها كما ليُبدي عدم إعجابه بلونها الجديد: 

-كلّما اشتقت إليّ ارتدي الأسود. 

ردّت كمن يعتذر لرجل يعشق الأشجار: 

-أنا شجرة توت لا رداء لي أصلاً إلاّ السواد. 

منذ ذلك الحين، وفي انتظار أن تراه مجدّداً، ما عادت شجرة واحدة، بل غابة من النساء. هي شجرة الكرز المزهرة، هي شجرة الصّبار والصفصاف الباكي، وشجرة اللوز، وشجرة الأرز، والسنونو والصنوبرة. 

بعده لم تعد تصادق إلّا الغابات لتكون لها قرابة بشجرة عائلته، ولكي تتجسّس على نسائه! 
187

تعلّمت منه أن تتحاور مع الكون عبر السلّم الموسيقي للصمت. هي التي نبتت كزهرة بريّة بين شقوق الصخور، الآن فقط تعلّمت أن تصغي إلى ما ظنّته بلا صوت: حفيف الكائنات، في ذلك العالم السرّي الذي نعيش بمحاذاته. 

وعندما تنتهي من نزهتها تلك، تعود لتمشي في أدغال الحياة. فراشة بين وحوشه الضارية. سنتان مرّتا على وجودها في الشرق ولم تصادق أحداً من الوسط الفنّي، عدا فراس. 

اغرس شجرة تردَّ لك الجميل، تُطعمك من ثمارها، وتُمدك بسبعة ليترات أكسجين يومياً، أو على الأقلّ تظللّك وتجمّل حياتك بخضارها، وتدعُ أغصانها الوارفة العصافير، لتزقزق في حديقتك. تأتي بإنسان وتزرعه في تربتك.. فيقتلعك أوّل مايقوى عوده، يتمدّد ويعربش، يسرق ماءك كي ينمو أسرع منك، تستيقظ ذات صباح وإذا به أخذ مكانك، وأولم لأعدائك من سلال فاكهتك، ودعا الذئاب لتنهشك وتغتابك. كيف لا ينخرط المرء في حزب الشجر؟! 

عندما شكت إلى نجلاء تلك المغنّية التي كانت تخالها صديقة، وراحت بسعادة تُسمعها الأغنية التي قدمها لها أحد الملحّنين لتكون ((ضربة الموسم)) وإذا بالمغنّية تتّصل بالملحّن تعرض عليه أضعاف ما قدّمته هي، فما كان من الملحّن إلا أن باعها إيّاها حتى من دون أن يعتذر أو يخبرها بذلك. 

قالت نجلاء: 

-هذا زمن الصداقات العابرة. لا يمكن أن تقيمي علاقة طويلة الأمد أو تراهني على أحد. 
188

صاحت: 

-لكن هذا عيب.. كيف لم تستح منيّ.. 

-وهل استحى الملحّن؟ إنه وسط بلا حياء ولا انتماء سوى لجيبه. أنت كنت جاهزة لأن تُقتلي لتؤدي في مأتم أبيك أغنية، وهم قد يمشون على جثة أحد للفوز بأغنية. عليك أن تتقّبلي الأمر أو تُغيري مهنتك! 

تغير مهنتها؟! في الماضي كانت تخّبئ صوتها في محفظتها المدرسيّة، لا تخرجه إلا في الصفّ. ثم حين يدّق الجرس تعيده مجدداً إلى المحفظة. أمّا الآن فما عاد بإمكانها أن تفعل ذلك. كيف لبركان استيقظ، أن يبتلع حممه! 

تذكّرت أنها لم تتّصل بفراس منذ مدّة. عندما تكون محبطة فقط تتذكّره، وتعاودها الرغبة في تعلّم العزف. غير أن قلبها يعزف هذه الأيام لحناً آخر. وكل ماتريده، هو استعادة العود. 

قال لها وهو يعيده إليها: 

-صودف أن زارني البارحة صديق عازف، فتعلّق به حين رويت له قصّته. عزف عليه بعض الوقت، ثمّ نبهّني إلى أنّك إذاً اكتفيت بالاحتفاظ به فوق خزانة، فلن يكون هذا العود سوى قطعة خشبيّة في بيتك. فالعود يتأثّر بالحرارة والرطوبة ويفقد صوته كما البشر. عليك أن تواظبي على صيانته، وأن تسلميه لأحد بين الحين والآخر كي يُعيد دوزنته، وشدّ حباله، ويعزف عليه ليمدّ في حياته، وإلاّ خسرته. في الواقع لديه أمنية ، أن يستعيره ذات مرة ليعزف عليه في إحدى الحفلات. إنه واحد من خيرة موسيقيّينا. بإمكانك أن تثقي به. 
189

أقنعها بصواب رأيه، برغم إحساسها أنه في كل هذا يريد أن يضمن تردّدها إليه. 

انتهى بها الأمر أن تركت العود لديه. ليس هناك سواه أهلٌ لأمانة كهذه. بإمكانها استعادته لاحقاً متى شاءت. لا وقت لها لتصون صوتها وقلبها وأمّها، فكيف تزيد على ذلك صيانة العود والاطمئنان على صحّته! 

قالت لتبررّ قرارها: 

-يعنيني العود لقيمته العاطفيّة، في الواقع أنا ابنة الناي. إنه الأقرب لوجداني. لكن إحساسي بالموسيقى تغيّر، بدأت أميل إلى الكمنجة والبيانو. أجاب: 

- إن تربّيت على الناي، يظلّ يناديك أينما كنت، فتلحقين به، كما لحقت في تلك الأسطورة الطيور والحيوانات جميعها بأورفيوس، وهو يعزف على نايه. 

سألته متعجبّة: 

-هل تفهم في الناي أيضاً؟ 

ردّ مباهياً: 

-أنا حلبيّ.. لقد جاءنا الناي مكرّماً قبل قرون، يوم أقام جلال الدين الرومي في حلب، فهو الآلة الموسيقية الأولى لدى الصوفيّة. إنه يرافق الدراويش في دورانهم حول أنفسهم. أما في ((المولويّة)) الطريقة التي تنتمي لها عائلتي، فوحدها الدفوف ترافق الراقصين. 

علقت بإعجاب: 

-يا الله.. كيف تعرف كلّ هذا؟ 
190

ردّ مزهواً: 

-ما من حلبيّ إلا قرابة بإحدى الطرق الصوفيّة. 

غمرتها سعادة من وقع على سرّ جميل. لعلّ هذا ما جاء بأبيها إلى حلب. شعرت بانجذاب روحي إلى هذا الشاب الذي لا يوحي مظهره العصري أنّ وجدانه يحلّق عالياً في سماء المتصّوفة. 

سألته كيف بإمكانها أن تصطحب أمّها لحضور إحدى هذه الحلقات، فذلك سيسعدها حتماً. 

قال: 

-بإمكانك حضور الحفلات التي تقدّمها الفرق الصوفيّة في شهر رمضان في القاعات، وأحياناً في القصور والبيوت العتيقة. امنحيني سعادة أن أدعوكما في أوّل مناسبة. سترين أن لا شيء يضاهي سهرة في ضيافة الدراويش. 



((ذهب الذين أحبّهم وبقيت مثل السيف فردَا.)) 

عمرو بن معد يكرب 



وجدت في قدوم عمّتها من الجزائر لزيارتهم نعمةً نزلت من السماء. عساها تشغل أمّها قليلاً عن هواجسها. في الواقع، منذ الأمير عبد القادر، لم تفرغ سوريا يوماً من الجزائريين، دوماً أشرعت لهم قلبها ودخلوها من دون تأشيرة. وهكذا أصبح على أمّها أن تشرّع بدورها بيتها لاستقبال الوافدين من أقارب وأصدقاء. 

جاءت العمّة محّملة بما طلبت منها أمّها إحضاره، حاجات تعّز عليها، وما استطاعت حملها يوم غادروا. أشياء لها قيمة عاطفيّة، أما ما عداها فما عاد يعنيها. لقد تركت البيت على حاله لأخي زوجها. ثمّة خسارات كبيرة إلى حد لا خسارة بعدها تستحق الحزن. 

قالت أمّها وهي تأخذ قرارها ((البيت برجاله لا بجدرانه، ومن كانو يصنعون بهجة البيت غادروه، فما نفعه بعدهم)). كان عمّها منصفاً، أبى إلا أن يدفع ثمن البيت، بما ادّخر من مالٍ أثناء عمله في فرنسا. هكذا تمكّنوا من شراء شقّة في الشام. 
194

لقد عاشت أمّها الفاجعة نفسها في سنة 1982 يوم غادرت حماه وهي صبية مع والدتها وإخوتها، لتقيم لدى أخوالها في حلب، ما استطاعوا العيش في بيت ذُبح فيه والدهم، وهم مختبئون تحت الأسرّة. سمعوا صوته وهو يستجدي قَتَلته، ثم شهقة موته وصوت ارتطام جسده بالأرض، عندما غادروا مخابئهم بعد وقت، كان أرضاً وسط بركة دمّ، رأسه شبه مفصول عن جسده، ولحيته مخضّبة بدمه. كانت لحيته هي شبهته، فقد دخل الجيش إلى حماه لينظّفها من الإسلاميين، فمحاها من الوجود. 

الأشدّ ألماً أنّ رجلاً في مقامه دُفن سراً، كما يُدفن قطاع الطرق على عجل، رقم بين الأرقام. لا أحد مشى في جنازته، ولا أحد عزّى فيه. كانت حماه الورعة التقيّة، تدفن ثلاثين ألف قتيل في بضعة أيام، بعضهم دفن الوديعة في جنح الظلام. كان ثمة زحمة موت، لذا لم يحظ الراحلون بدمع كثير. وحدهم الموتى كانوا يمشون بعضهم في جنازات بعض. 

هي لم تنس شيئاً. لقد عقدت هدنةً مع الذاكرة، ليس أكثر. لكن بين مدٍّ وجزر، كانت الذكريات تعود كما الأمواج. إنها الأمواج العاتية للحياة، تقذف بها مرة أخرى إلى الشاطئ نفسه، الذي غادرته قبل ثلاثين سنة، عندما تزوّجت ذلك الجزائري هرباً إلى أبعد مكان عن رائحة الموت، لكن الموت عاد بها، هاربة مرّة أخرى من حيث جاءت، فهل كانت تحمله في حقائبها، ليكون لها قدر غريب كهذا؟ 

كان الموت نفسه ينتظرها في سيناريو آخر. هذه المّرة ليس الجيش هو الذي يقتل الأبرياء بشبهة إسلامهم، بل الإرهابيون يقتلون الناس بذريعة أنهم أقل إسلاماً مما يجب! 
195

كانت امرأة منهكة، أكسبتها الفجائع حكمة الضحية. لا تتوقفّ عن التمتمة مُسبحة، مُتأمّلة هشاشة الوجود الإنسانيّ وعبثّيته. ما ترك لها القدر فرصة لنضج طبيعي. كان عليها أن تدفعها، وهي ترى الآن قدرها يتكرر مع ابنتها. 

كمن يعيش عمليّة بتر عضو من أعضائه دون تخدير، كان عليها أن تعيش فجائعها وهي في كامل وعيها. أن يشرعوا الباب كلّ مرة، ليدخلوا عليها تارة بجثّة زوجها، وأخرى بجثّة ابنها، وأن تواصل الحياة برغم ذلك مع قَتلتِهما. ليس الألم الأعظم أن تدفن أباك بل أن تدفن ابنك. 

كانت العمة تحمل أخباراً سارّة. 

-الحمد لله رانا في رحمة ربّي.. ارجع النا الأمان يا هند يا اختي.. يا ريتك صبرتي شويّة. 

-ما قدرتش انعيش مع اللي قتلوا ولدي وقتلوا راجلي.. لو قعدت هناك كنت متّ والّا قتلت حدّ. 

-الناس كلّهم صابرين.. واللي ما عندوش وين يروح واش يدير.. نوّكلوا عليهم ربي ((يا قاتل الروح وين تروح))! 

تدخّلت لتلّطف الأجواء، قالت موجّهة الحديث لعمّتها: 

-إمي حابة تعمل متل الحاجة الزهرة في قسنطينة.. جاوا إرهابيين في عمر إبنا أخدوا إبنا في الليل وقتلو قدّاما وهي تبكي وتحاول فيهم. ولما عرفتهم راحت جابت رشاش mat49 تدرّبت عليه وقتلتهم.. وصارت ما عندا شغله غير ملاحقة الإرهابيين. رفضت تعترف بقانون الرحمة، قالت ((ناخذ حقي بيدي.. اللي ما رحمنيش ما نرحموش..)). 
196 
قالت الأمّ متعجبة: 

-ما سمعت هالقصة.. إمتى صارت؟ 

ردّت: 

-لما كنّا بالجزائر.. سمتها الصحافة ((جميلة بوحيرد الثانية)). شيء ما بيتصدّق.. مرا عمرا ستّين سنة قتلت خمسين إرهابي! 

واصلت مازحة وهي ترى أمها مأخوذة بالقصة: 

-خفت وقتا بحكيلك عنّا تروحي تجيبي رشاش وانصير نص العايلة مقتولة.. ونص قتلة! 

ضحكت. لا بد من ممازحة الموت أحياناً وإلا قتلك قبل أوانك. 

علّقت العمة من تحت حجابها: 

-أحنا مومنين يا بنتي.. والانتقام صفة من صفات الله وحدو هو ((المنتقم)) اللي يجيب لك حقك. لو بقينا كلّ واحد ياخذ ثاروا بيدّو عمرها ما تخلاص، اللي ماتوا مش رايحين يرجعوا، لكن البلاد تروح. الحق.. في هذه بوتفليقة يعطيه الصحة.. يرحم والديه عمل شيء ما حد غيرو كان قدر عليه. ما كانش حاجة في الدنيا أغلى من الأمان.. قليل واش فات علينا في عشر سنين! 

لكن أمّها ليست جاهزة للغفران، هي لم تغفر حتّى الآن لمن قتلوا أباها قبل ثلاثين سنة في حماه، فكيف تغفر لمن أخذوا منها ابنها وزوجها قبل عامين. رفضت قبول الدية التي قدّمتها الدولة لأهالي ضحايا الأرهاب. كيف تقبل دية عن جرائم، هي بحسب قانون العفو العام والوئام الوطني، لم تحدث، ويسقط عن مرتكبيها حق الملاحقة، مها كانت فظاعتها.
197

كلّ وجعها جاء من هنا. 

لأنّ أمن الوطن لا يتحقّق إلّا على حساب العدل، عمّ السلم المدني، وفُقد السلام الذاتي. فالضحايا ليست لهم صفة الضحية، ما دام المجرم لا يحمل صفة مجرم. 

كلّ ماحدث إذاً على مدى عشر سنوات لم يكن. ليس عليك أن تسأل كيف مات المئتا ألف قتيل، وعلى يد من؟ لربما ماتوا في كارثة طبيعيّة! 

وعلى آلاف المغتصبات أن يتحمّلن وحدهن عقاب ما أنجبن من لقطاء. وليبحث لاحقاً كلّ لقيط عن أب، فقد عفا القانون عن المغتصب! 

وعلى أهالي المفقودين أن يكفّوا عن إزعاج الناس بالتظاهر ، وليغفروا لوطن فقد هو أيضاً صوابه! 

وعلى ابن الرئيس محمد بوضياف أن يتوقّف عن مطاردة الحقيقة، ومساءلة الدولة عمّن اغتال أباه، فجرائم الدولة أيضاً يشملها قانون العفو! 

أكثر من جنون الإجرام، يطالبك الوطن الآن بجنون الغفران. وبعد واجب التذكّر، أصبح المطلوب أن ننسى، لأن القاتل هذه المرّة جزائريّ، وليس فرنسياً. لقد عاد من نوبة جنونه أتقى وأكثر وطنيّة منك. والإرهابيون الذين كانوا يحرقون الأعلام الوطنية حالما يصلون إلى قرية، ينزلون الآن من الجبال وهم يعرفونها. والذين طال عنفهم، حدّ نبش عظام شهداء الثورة وإحراقها، لأنهم أسهموا بجهادهم في ولادة دولة علمانية، هم الآن يتنافسون على إثبات ولائهم للدولة كي يفوزوا بكرمها. 
198

أيقظت زيارة عمّتها كثيراً من مواجعها، فهي لم تثبت إلى اليوم على رأي، هل الأهم إنقاذ الوطن أم تطبيق العدالة؟ وهل عليها أن تفكرّ كمواطنة أم كإنسانة؟ 

ما يعنيها الآن أنّ أمّها تبدو سعيدة، تتسامر مع عمّتها، وترافقها نهاراً للأسواق، هذا يتيح لها السفر دون شعور بالذنب. فهي لا تحبّ أن تترك أمّها بمفردها، وعليها أن تلبّي عدّة دعوات لتقديم حفلات في أكثر من بلد. لكأنّ الجميع اكتشفها في الوقت نفسه. 



الحركة الثالثة 



((الحبّ هو عدم حصول المرء فوراً على ما يشتهيه.)) ألفرد كابوس 



في البدء، كان نجاحها المتواصل تسعده. يضعها في ميزان زهوه ووجاهته. فما كان ليرضى بها لو كانت امرأة فاشلة أو عادية. ثمّ بدأت التفاصيل المنقولة في الصحافة عن ظاهرة هالة الوافي واجتياحها قلوب الناس أينما حلّت، تزعجه بعض الشيء. 

ربّما بدأ يتنفّس أوكسيد كربون الغيرة، لكنّه يرفض أن يعترف لنفسه بأنّه يغار. لا يدري أكان يخاف عليها من شهرة ستفسد براءتها أم من ضوء سيجذب الرجال إليها. وهل يريد لها نجاحاً يباهي به، أم يفضّل لو أبطأت بلوغ نجاحها كي تبقي له. 

هاتفها ليطمئّن على استحواذه عليها. قال: 

-اشتريت تلك الشقّة في باريس وانتهيت من تأثيثها، بإمكانك الحضور متى شئت إن كنت لا تزالين تحبيّن الغابات. 

ردّت مبتهجة لتستدرجه إلى اعتراف ما: 

-أفعلت هذا من أجلي؟ 

قال مازحاً: 

-لا.. من أجل الأشجار طبعاً. 
204

وكان يعني: من أجل ثمار حان قطافها. 

ردّت ضاحكة: 

-لن تنجح في جعلي أغار من الأشجار. 

ليست الأشجار، بل الأصفار هي التي كانت ضرّتها، وهذا ما يفسد فرحتها، كما حين راحت تبحث في حقيبة يدها، عن بطاقة هاتفيّة قد يكون فيها ما يكفي من الوحدات، لتزفّ له خبر حصولها على تأشيرة لفرنسا. فعلّقت نجلاء مازحة وهي تراها تجرّب ما في حوزتها من بطاقات، من تلك التي تمكّنك من الحديث إلى الخارج بسعر منخفض. 

-إنّ في حقيبة يدك من البطاقات الهاتفّية، بقدر ما في جيبه من البطاقات المصرفيّة. هو يقيس الحبّ بالعملات وأنت بالوحدات.. عليك أن تتقّبلي منطق الأصفار التي تباعد بينكما وإلّا فستشقين! 

كانت أكثر فرحة من أن تفكّر يومذاك في الشقاء. كلّ ما تريده من نجلاء أن ترافقها لشراء ثياب جديدة. هذه المرّة هي تملك إمكانات إبهاره. 

لكنّها أخفت عن نجلاء حقيقة أخرى. وهذا دليل على أنّها مُقدمة على فعل تستحي أن يعرف به أحد. كيف قبلت عرضه بأن تقيم في بيته؟ 

إيّ قدرة يملك هذا الرجل لجعلها بكّل ما قضت عمرها في رفضه. حارت في حلّ معضلتها: لو حجزت في فندق بسيط فسيعلم بالأمر. لو حجزت في فندق على قياس جيبه، فسيفرغ جيبها، وتُفسد تكاليف الفندق فرحتها. ولو أقامت عنده لخالها فتاة سهلة. 
205

أمام تردّدها في قبول عرضه، أقنعها بأنّ البيت في تصرّفها وحدها، وأنّ ثمّة نسخة واحدة من المفاتيح ستكون في حوزتها، و.. أنه اشترى البيت لإسعادها، ويعزّ عليه ألّا تكون أوّل من يقيم فيه. هذه الجملة تحديداً هزمتها. لعلّه يخطّط معها لعلاقة شرعيّة. 

قبل السفر هاتفته سائلة: 

-ماذا أحضر لك معي؟ 

أجابها محتفظاً لنفسه بابتسامة: 

فقط تعالي.. لديّ هنا كل شيء. 

ردّت مازحة: 

-أوهمني أنّ ثمّة ما تحتاج إلى أن أحضره لك. لا أطمئنّ لمن لديه كلّ شيء! 

لم تقل له إنها تحتاج إلى أن يحتاج إليها. لأنه ظلّ على رأيه، أخذت له عرجون التمر التي أحضرته عمّتها من الجزائر، وكتاباً فخماً بالفرنسية عن أغرب الأشجار في العالم وما حيك حولها من أساطير. في جميع الحالات، ما كان يمكن أن تدخل بيته ((فاضية اليدين)). 





أحدث أقدم