الاسود يليق بك (الجزء السادس) | رواية عربية



سافرت بأحاسيس متناقضة لم تعرفها من قبل. لم يحدث أن وضّبت حقيبة للّهفة، ولا أخذت تذكرة للسعادة. لأوّل مرّة أصبح للحبّ مطار وعنوان.. وبيت ينتظرها فيه رجل. 

بدل أن تسعد أُصيبت بذعر السعادة. 

في المطار، أملت على سائق التاكسي عنوان قدرها. تذكّرت أمّها، تراها عرفت أحاسيس مجنونة كهذه، لتغادر حلب وتلحق برجل غريب إلى بلدة جزائريّة نائية! 
206

عند باب البناية الفخمة ذات الطراز المعماري القديم، دقّت شيفرة الباب التي أمدّها بها. أربعة أرقام وفُتح الباب الزجاجي. 

ما كادت تدلف إلى داخل البهو الكبير، حتّى جاء البّواب لنجدتها. ربّما رآها على شاشته تائهة في صالون البهو. سألها: 

-آنستي.. هل يمكنني مساعدتك؟ 

أجابته مرتبكة كأنه سيتعرف إليها: 

-أريد شقّة السّيد طلال هاشم. 

دبّت فيه الحماسة وحمل عنها الحقيبة حتّى باب المصعد. 

طلب المصعد. وقال: 

-الطابق التاسع على اليمين. 

كان باب الشقّة مفتوحاً. وجدته ينتظرها على العتبة. قبّل وجنتيها مُرحّباً وسحب الحقيبة إلى الداخل. 

لم يعلّق على حقيبتها الثقيلة أكثر من اللازم، والمزدحمة كقلبها بأشياء ليست كلّها ضروريّة. كان يجد في علامات تخلفّها هذه ما يطمئنه. 

ذهب بالحقيبة إلى غرفة داخليّة. وعاد إلى الصالون مبتهجاً، كأنّ شعاعاً دخل بيته في تلك الظهيرة الباريسيّة. سألها كيف كانت رحلتها من بيروت إلى باريس. لم يسألها عن رحلتها الأصعب تلك التي قطعها قلبها من المطار إلى بيته. 
207

ها هو إذاً. أخيراً هو. سعيداً ودوداً كما لم تره يوماً. لكنّه على احتفائه بها بدا هو نفسه غير مصدّق وجودها في بيته. نسي أن يضمّها، راح يتأمّلها، وراحت هي تتأمّل الشقّة، في أناقة أثاثها القليل والمنتقى بذوق عصري راق. كلّ شيء شفّاف من الزجاج السميك الفاخر، الطاولات كما الرفوف تقف على أعمدة زجاجيّة بقواعد ذهبيّة. حتى الكراسي بلون عاجّي غير مثقلة بالزخرفات. إنه فنّ المساحة. لا شيء يثقل فضاء الرؤية، والسجّاد يبدو لوحة حريريّة بألوان ناعمة مُدّت على الأرض. 

لا شيء يشبه البيت الذي تركته خلفها في الشام، ولا الآخر الذي عاشت فيه في الجزائر، بصالونه الذهبيّ وإطار لوحاته الذهبيّة وطاولاته الذهبيّة. الثراء الحقيقي لا يحتاج إلى إشهار الذهب. لا يعنيه إبهار أحد. لذا وحدهم الأثرياء يعرفون بنظرة، قيمة أشياء لا بريق لها. 

-تعالي لأريك المنظر. 

لحقت به إلى الشرفة. فتح ستارة النافذة. كان المنظر يطلّ على جادّة تعبرها بعض السيّارات، وعلى طرفها الآخر تمتدّ غابة تتوسطها بحيرة. 

-تدرين كنتُ محظوظاً، قلّما تعرض شّقة كهذه للبيع، من هذا العلوّ أحظى بمنظر خلاّب. الذين يقطنون هذه الأحياء الراقية قلما يعرضون ممتلكاتهم للبيع. إنّهم يتوارثونها. شطارتك في أن تغريهم بعرض يفوق القيمة العاطفيّة لإرثهم. 

لم تسأله عن الثمن الذي دفعه لامتلاكها، ولا عن قصّة أصحابها، وحدها قصّتها تعنيها، في بينت تمنتّه جدران حياتها وسقف أحلامها. 

تمتمت بالفرنسية وهي ترى المنظر في الخارج: 

-Mon Dieu comme c'est beau! 
208

علّق: 

-يسعدني أن يعجبك. أنت أولّ من يزوره. حتّى زوجتي لا علم لها بوجوده. فاجأها اعترافه. شعرت بأنها ثملة بنشوة تعيشها كحلم. لكأنه يقول لها إنها أهّم عنده من زوجته. 

واصل يدلّها على جهة أخرى: 

-للشقّة مدخل خاصّ بالخدم. 

كلّ شيء كان يوهمها أنّها غدت ربّة هذا البيت، الذي راح كمرشد سياحيّ يرافقها في زيارته. 

واصل: 

-في البيت أربع غرف نوم مرفقة بحماماتها. 

غير أنّه لم يُرها منها إلا الغرفة الأولى حيث وضع حقيبتها. أدركت أنّها غرفتـ(ـها). 

أكبرت فيه وقوفه عند عتبة ذلك الباب فلم تجتز بدورها العتبة. 

عاد أدراجه مجتازاً الممرّ. سألها وهو يدلّها على المطبخ ويفتح البّراد: 

-لعلّك جائعة، أو تودّين شرب شيء؟ لديّ أشياء خفيفة. 

كان البرّاد ببابين، وكّل شيء فيه مرتّباً وشهياً كما في إعلان تلفزيوني. 

لكنّها لم تكن قد استوعبت بعد كلّ ما يحدث لها، ولا فكرة وجودها في بيته وفي مطبخه، واقفة على مقربة منه. 

ما تريده حقاً هو التهام تلك المسافة اللعينة التي تفضلها عنه منذ أشهر. 
209

ردّت: 

-شكراً، ليس الآن.. لست جائعة إلّا إذا كنت تنتظرني لتتغدّى.

أجاب وهو يغلف البّراد: 

-بل أنتظرك لأحيا.. 

حلّ بينهما صمت مباغت. شلّتهما الرغبة في انجرافهما المحموم، لكأنّه قبّلها بجملة. تسمّر كلّ منهما مكانه. كانا على بعد متر أحدهما من الآخر. على هذه المسافة، بدأ بينهما خدر قبلة لم تبدأ بعد. تقدم نحوها ملتهماً شفتيها.. ثم ترك جحيم شفتيه ومضى. 

قال لها وهي فالصالون: 

-عندي مواعيد في المكتب. ارتاحي قليلاً من السفر، سأعود مساءً لأصطحبك إلى العشاء. 

واصل وهو يتّجه نحو الباب: ((بالمناسبة أنا طاهٍ بارع. ذات مساء سأعدّ لك عشاءً في البيت)). 

أسعدتها الفكرة. لكنّها أحزنتها لاحقاً، حين قال لها مساءً وهما في المطعم ((عندما أحب امرأة أطهو لها بنفسي)). 

فقدت شهّيتها وربّما صوتها أيضاً. لم تسأله ((هل حدث هذا مراراً؟)).

ولم تجرؤ على سؤاله، وهو يرافقها بعد العشاء حتّى الشقة، ليطمئن على كلّ شيء ويقبّلها مغادراً إلى.. بيته الآخر: من تراها تكون بالنسبة إليه بالتحديد؟ 

*** 
210

كان يُتقن لعبة الغموض. في الواقع، توقّف الأمر عن ان يكون لعبة، مذ امتلك الحكمة والنزق في التعامل مع الحياة. الانضباط سرّ نجاحه. مذ قرّر أن يعطي كلّ شيء وقته. وكلّ واحد حقّه. لم يحدث أن جمع بين امرأتين في مدينة واحدة. يحتاج إلى أن تغادر زوجته باريس ليكون لامرأة غيرها. ليس خوفاً منها بل خوفاً من أن تخونه رجولته معها، أو تخونه شهامته حين بين امرأتين يخلو بنفسه. ما عاد قادراً في كلّ لقاء على منح نفسه كلياً، وعلى استعادتها كلياً وهو يرتدي ثيابه ويصفق الباب. انتهى ذلك الزمن المجنون، الذي كان بإمكانه العيش فيه حيوات عدّة في آن واحد، وأكثر من نهار في يوم واحد، ومُداراة ومُراعاة كلّ امرأة على حدة. 

سعادته الآن في التوفيق بين حياتين متوازيتين، عليهما ألّا تلتقيا، ويحتاج إليهما معاً ليحيا. وفي انتقاء المتع الراقية، كزجاجة نبيذ فاخر لسنة استثنائيّة. هكذا يراها، تلك الصبيّة التي تركها منذ أشهر تتعتّق. 

كلّ النساء حوله كنّ جاهزات للعطاء، أو بالأحرى لأخذ ما يدّعين عطاءه. وما كان يريد غير امرأة واحدة، تكون من يعطيها. ثمّة شقاء مخيف، يكبر كلّما ازداد وعيُنا بأن لا أحد يستحقّ سخاءنا العاطفي، ولا أحد أهل لأن نهدي له جنوننا. كان دائم البحث عن امرأة تُفقده صوابه. يقوم من أجلها بأعمال خارقة. يمارس أمامها خدعة السحريّة، يضعها في صندوق زجاجي، يشطرها وصلاً وهجراً إلى نصفين، ثم يعيد بالقُبل جمع ما بعثر منها. ككبار السحرة، يُخفي بحركةٍ ساعة معصمها، ويخطفها لقضاء نهاية أسبوع في فيينا أو البندقيّة. يلغي من أجلها مواعيد، ويخترع للقائها مصادفات. يخرج لها من قبّعته السحريّة سرباً من حمام المفاجآت، وحبلاً من المناديل الملونّة، تتمسك بطرفه وترتفع إليه، ففي كلّ ما يُقدم عليه مع امرأة، ما كان يقبل غير الحالات الشاهقة والصواعق العشقيّة. 
211

استيقظ صباح اليوم التالي بنيّة إدهاش الحبّ. لعلّه شعوره بالذنب وهو يتخلّى عنها البارحة في ذلك البيت لتقضي أوّل ليلة بمفردها. قرّر أن يُخرج من قبّعته أحد المقالب السحريّة، كما في استعراض سحريّ، الدقة الفائقة في ضبط الوقت، هي الشرط الأول لضمان الإبهار. 

حسب تعليماته، على الساعة العاشرة تماماً، دق جرس البيت. لم تدر أكان عليها أن تفتح. نظرت من عين الباب. لمحت البواب برفقة شخص يحمل سلة ورد. سارعت إلى ارتداء روب البيت، ثم فتحت الباب. 

قال البّواب وهو يُحيّيها، إن من واجبه مرافقة أي غريب يوصل شيئاً إلى ساكني البناية. شكرته وتسلمت منه باقة الورد. تنبهت بعد ذهابهما أنها لم تعط حامل الورود شيئاً يليق بهيئته الأنيقة، المشابهة للموظفين الواقفين عند أبواب الفنادق الفاخرة، ببذلاتهم ذات الأزرار الذهبية وقبعاتهم المميزة. 

منذ متى لم تصلها منه باقة التوليب تلك؟ ربّما منذ حفل القاهرة، قبل عدّة أشهر. 

توقعّت منه مكالمة هذا الصباح. لكنْ، ربما كان ما كتبه على البطاقة أجمل. 
212

وضعت الورود على الطاولة وراحت تبحث عن البطاقة. لم تقع إلاّ على علبة صغيرة بشرائط جميلة. لعلّها ساعة. ما حاجتها إلى ساعة! أيريد أن يعتذر لها عن الساعات التي ستقضيها في انتظاره؟ أم ليمتلكها بها؟ بدأت تتذمّر حتّى قبل أن تفتح العلبة. لا أسهل على الأثرياء من إرسال هديّة ثمينة! 

كانت منهمكة قي فكّ الشرائط، حين انطلقت موسيقى من قلب العلبة. انتفضت. ثمّ راحت، وقد تجاوزت وقع المفاجأة، تمّزق ورقة الهدّية بسرعة. أخرجت جهاز هاتف العلبة، وضغطت أوّل زّر صادفها. 

وضعت الهاتف عل أذنها. جاء صوته: 

-اشتقت إليك.. 

ترك لها الوقت لاستيعاب المفاجأة. 

ثم أضاف: 

-أحتاج إلى أن أسمعك أينما تكونين. (كان عليها أن تفهم: أريد أن أعرف دائماً أين تكونين) وضعت لك في هذا الهاتف خطًّا فرنسياً. بإمكانك استعماله أينما كنت في العالم. إذا احتجت إلى شيء يكفي دقّة واحدة أو رسالة. سأطلبك حالما أستطيع. 

لأنّه لم يسمع لها جواباً، سألها: 

-هل اشتقتِ إليّ؟ 

ردّت بصوتٍ أفقدته المفاجأة نبرته: 

-عليك اللعنة.. كدت تقتلني! 

ردّ ضاحكاً: 

-ليس اليوم.. هل أحببت الدانوب الأزرق؟ لم تدر بما تجيبه. أيكون في العلبة شيء لم تره بعد؟ 
213

واصل: 

-إنّها المعزوفة التي أحبّها أكثر.. أريد أن أراقص روحك كلّما رنّ الهاتف. 

ودّعها وعاد سعيداً إلى مشاغله. سعيداً من أجله أوّلاً. في كلّ مايفعله، هو أوّل شخص يودّ إدهاشه. إنّه الساحر والمندهش الأّوّل لأدواره السحريّة. 

العاديّون من الناس يرسلون مع الورد بطاقة. أمّا هو، فأرسل لها مع الورد صوته. 

هل حدث لامرأة قبلها أن خرج لها صوت من تحبّ من سلّة ورد؟ يشكّ في أن يكون غيره فكّر في وضع هاتف مفتوح داخل علبة مغلقة. وحدهم ((العاديّون)) يرون قيمة مضافة في تقديم هدايا مغلفة ومختومة، كما خرجت من المصنع. لا أفقر ممّن يفتقر إلى الخيال! 

ثمّ، هو يريد هاتفاً لم يعبره صوت رجل قبله. هاتف لا سوابق له، يصرّ على عذرية الأشياء التي يقاربها. 

ظلّت ممسكة بالهاتف، غير مصدّقة ما حدث لها. ليست هدّيته التي أسعدتها، بل تلك اللحظة التي انطلقت فيها الموسيقى من سلّة الورد. وصوته الآتي في الدقيقة التي كانت تفتح فيها العلبة. كيف استطاع برمجة كلّ شيء لإدهاشها. 

وكيف لا.. أوليس سّيد ضبط الوقت، وضبط الإيقاع. هو جوهرجي الدقائق وواهب الساعات ألماس عقاربها. 
214

راحت تبحث في العلبة عن شيء آخر قد يكون خبّأه لها. بدا لها ساحراً يمكن أن يُخرج من قبّعته أكثر من مفاجأة، لكنّها لم تعثر سوى على عقد صيانة الجهاز، وآخر عليه رقم هاتف شريحتها الجديدة. أخذت الورقة وأخذت تطلب رقمها من هاتف البيت. 

انطلقت موسيقى الدانوب الأزرق. تركت الهاتف يرنّ وبدأت تدور مع الفالس. فتحت النافذة. شعرت بأنّ الموسيقى تطير بها فراشة في غابة بولونيا, وكأنّ البطّ والطيور والغيوم المسافرة، ترقص معها على المسرح الشاسع للكون، وأنّ الأشجار تحسدها، وتتهامس ((أيكون استبدلنا بهذه المجنونة؟)). 

*** 



حين حضر في المساء سألته: 

-أتكون هذه هي السعادة؟ 

أجابها وهو يضمّها: 

-إنّها مجرّد تمرين عليها. 

-وهل ثمّة ما هو أكبر؟ 

-سترين.. 

برغم ذلك لم تنس أن تُبدي له رفضها القاطع بالسماح له بدفع فواتير هاتفها. قالت: 

-يسعدني أن يكون لي أخيراً رقم يربطني بالعالم أينما كنت. سأحتفظ بالجهاز وبالخطّ، لكن لن يدفع فواتيري. البعض يُنفق ماله في المطاعم، البعض الآخر في الثياب، وآخرون في شراء السيّارات، أما أنا، فقلبي أولى بالإنفاق، أُنفق على عواطفي. نصف دخلي أشتري به كلمات. تدري أنّني أحتفظ بكّل البطاقات الهاتفيّة التي حدثتّك عليها. 
215

ردّ: 

-احتفظي بها إن شئت، لكنّني أحتفظ بحقّي في دفع فواتير قلبك مادام قلبك معي. 

واصل مُنهياً النقاش: 

-هذا المساء سنبقى في البيت. ماذا تودين أن أُعد لك؟ 

ما كان من مجالٍ لمناقشته في شيء. انتهى الأمر. هو لن يعود إلى موضوع الفواتير. لكنّ الأمر يزعجها حقاً. إنّ الهاتف ((رجل حياتها)) كما تقول نجلاء. ولن تقبل أن ينفق أحد على نصفها الآخر! 

كانت لوازم إعداد العشاء موجودة في المطبخ حسب قائمة المشتريات التي أحضرها السائق. منتقاة بمقاييس جودة معينّة، حتّى لتبدو كأنّها للزينة لا للأكل. فهي أيضاً ((signe)) من أرقى محال الخضر في باريس. سألها هل تحسن الطبخ. أجابته: 

-الجوع أمهر الطّباخين.. يكفي أن تدخل إلى المطبخ وأنت جائع. صحّح لها وهو يقبّلها: 

-بل الحبّ هو الأمهر.. يكفي أن ندخل إلى المطبخ لإعداد عشاء نتقاسمه مع من نحبّ. 
216

تأمّلته وهو يختار القدر المناسبة لكّل طبخة. سكاكين مختلفة حسب كلّ استعمال، يأخذ الوقت اللازم لتطرية البصل. يعرف الدقائق الكافية لشيّ شرائح السمك.. التوقيت الذي يقوّي أو يخفّف فيه النار تحت الطبخة. متى يضع الغطاء على الرزّ وهو يغلي.. ويخفّف النار تحته إلى أقلّ درجة. كيف يقلّب الخُضر دون أن يلحق أذًى بشكلها. علّقت متعجّبة: 

-ما ظننتك مُلماً إلى هذا الحدّ بأسرار الطبخ! 

أجاب: 

-أنا ذوّاقة ولست طبّاخاً.. تمنّيت لو استطعت أن أدعوك إلى أحد مطاعمي لتتذوّقي المطبخ الراقي الرفيع. مع الأسف يصعب علينا أن نكون هناك معاً، لكن جميل أن يرتاد الآخرون مطاعمي أثناء انهماكي في إعداد العشاء لمن أحبّ. لأوّل مرّة سمعت منه هذه الكلمة، في اعترافٍ غير مباشر. فهو لم ينادها يوماً ((حبيبتي)) ولا قال لها يوماً ((أحبّك)). خبّأتها بعيداً في قلبها، ستحتاج الى سماعها لاحقاً في وحدتها. 

دعاها إلى الصالون في انتظار أن يجهز العشاء. 

أطفأ جهاز التلفزيون حال استماعه لعناوين أخبار الثامنة. قالك 

-أهانة للحبّ أن أتابع الأخبار معك. 

ذهب يختار من مكتبته الموسيقيّة معزوفة تليق بتلك اللحظة. 

قال وهو يضع مقطوعة لـ((كليدرمان)): 

-تحلَّي بالصبر.. سيكون العشاء شهياً. 

كانت واثقة من ذلك. وقد خبرت معه على مدى أشهرٍ، النضج الطويل على نار الصبر. ألم يقل لها وهو يخّفف النار تحت الطبخة ((الطبخ على عجل يُفقد الطعام نكهته.. ككلّ مُتع الحياة)). 
217

هذا رجل ليس في مطبخه ((طنجرة ضغط)). معه تستوي الحياة على نار خافتة. 

*** 



توقّعته سيغادر إلى بيته بعد العشاء. لكن، عندما طالت بهما السهرة، بدأت تتأكّد أنّ زوجته قد سافرت، وهو حُرّ لليلة. 

أسعدتها الفكرة وأربكتها في آن واحد. 

مرّ عام مذ تعارفا، الليلة فقط يضمّها إليه في سرير. 

قال وهو يتمدّد إلى جانبها: 

-أنت أوّل من تنام على هذا السرير. 

توقّع أن يهدي إليها ما يُسعدُها. أجابته بما فاجأه: 

-وأنت أوّل رجل أقاسمه سريراً! 

كان يمنّ عليها بالأسرّة العذراء التي اشتراها للتّو، جاهلاً أنّها، بمجرّد نومها بجواره، كانت تخدش حياء عذريّةٍ حرسها أبوها وأخوها وقبيلة من الرجال. 

لقد أخطأ في اختيار جملته، هو الذي لا يخطأ في اختيار نوع سكاكينه. بقي مذهولاً للحظات أمام وقع اعترافها. لم يستدرجها لمزيد من التوضيح. في الاستفسار إهانة لسخائها.

بدت له فجأة غريبة وشهيّة في غموضها وارتباكها الأوّل. كأنّه لم يعرف عنها شيئاً. كعذريّة كتاب مغلقٍ على سرّه، لم تُفصل أوراقه بعضها عن بعض بسكّين. كتاب من تلك الكتب القديمة، التي ما عاد المرء يتوقّع مصادفتها. 
218

اليوم تأتيك الكتب مفتوحة الأوراق، جاهزة للمطالعة الفورية. ولذا اختفت من المكتبات تلك السكين الخاصة بفصل أوراق الكتب! 

عندما أبدت له في المطبخ عجبها من امتلاكه ذلك الكمّ من السكاكين المختلفة الأحجام، أجابها ((يُعرف الطباخ الجيّد من حسن اختياره السكاكين)). 

يبدو جوابه الآن دعابة، يبتسم لها وحده. الطبّاخ الجيّد لا يقطع إصبعه أبداً. لقد اكتسب خبرة الإمساك بما يفرمه. لا شيء ينزلق من يده. 

ماجدوى أن تكون طّباخاً جيّداً إذا كنت عاجزاً عن إحكام قبضتك على فتاة سريرك! 

ضمها إليه. يكفيه الليلة أن يحتضنها. 

-أشتهي أن أشمّك.. أحبّ رائحة أنوثتك.. 

لم يقل أكثر. لا يحبّ خدش حياء الكلمات، ولا كان يريد أكثر من أن يضمّها حدّ الانصهار في صباها، واحتواء أنوثتها المحتمية بقميص نوم لم يحترف الغواية بعد. 

الحبّ الكبير يولد في حياء الغموض. هكذا اعتقدت دائماً. ألا يراك أحد عارياً. أن يتخيّل كلّ شيء فيك. وهي غير جاهزة أن تخلع مبادئها دفعة واحدة من أجله. ولكنّها تريده، ولا تدري ما تريد منه بالتحديد. وتخافه، وتشتهي ما يخيفها فيه. هي معه لا لمقاسمته ما يملك، بل لتكتشف ما كانت تملك ولا تدري به.

لم تكتشف أنّ لها شفتين إلا حين قبّلها. ولا أنّها كانت تتنفّس إلّا حين قاسمته في قبلة أنفاسه. ولا أنّ لها شعراً إلّا وهو يمرر يده على خصلاته. ولا أنّ لها جسداً.. ورائحة وحواس.. إلا عندما أهدى لها في ضمةٍ أنوثتها. 
219

في الواقع,هي تجهل أنها من اهدت له رجولته. 

ما استطاعت النوم.ظّلت تتأمّل هذا الرجل النائم الى جوارها يواصل احتضانها في نومه.عند الفجر فقط،استطاعت ان تنام على صدره،كتاباً مغلقاً على سره.كان في ضمّته شيء من الابّوة التي تواسي يُتمها السري.. ورجولة مسالمة جرّدها النوم من سطوتها. 

***

كان له،في آن واحد،الحضور الحاني .. والبطش العاطفي . 

يتقدّم يوماً بعد آخر في اجتياح مدروس لامتلاكها . 

هذه المهرة الجامحة،مجرّد تطويقها بحبل سخائه،فوز في حدّ ذاته.لكنّ المهرة ما كانت ترى بعدُ من الحبل سوى ((طوق الحمامة))، مأخوذة بخلقه وامانته.دوماً توقف حيث ارادت له ان يقف. 

أنّى تمرّ يداه تُزهرْ أنوثتها،لكنّها ترفض ان يقطفها.ما يُعطى بسهولة يٌفقد بسهولة . 

كانت تطيل تمنّعها.(ماذا لو كان لا يحب فيها الّا ما ترفض ان تعطيه؟) وكان هو يواصل اختبارها.(ماذا لو لم تكن تحبّه بل تحب حبه لها؟) واظب على دراسة خريطة الطريق قلاعها. كما أمام رقعة شطرنج.كان صبوراً و متأّنّياً.القلاع الأنثويّة لا تُؤخذ عنوةَ ولا عند أوّل فرصة ولا في جنح الظلام.ذلك فعل قطاع الطرق لا الفرسان. 
220

كانت شهواته تستيفظ فجراً بتوقيت الحقول ، في تلك الساعة التي تنضج فيها الثمار وتنادي قاطفها .لكنها كانت تدري ،حتّى في نومها،أنه ليس من حقّها أن تمنحه ما ليس له. 

لا تريد ان تتناثر شقائق نعمان على حقل سريره،فلن يدري قيمة ما وهبته. 

كلّ مرّة،ينتابها حزن زهرة برّيّة تحمل إثم دمها،وذلك الشعور بالذنب الذي يرافق كلّ متعة. أمّا هو .. فكلاعب شطرنج محترف ،ترك الجولة مفتوحة لوقت آخر و مدن أخرى.لن يطاردها .إنّها الطريقة المثالية لينالها يوماً بملء إرادتها.((الجنتلمان ذئب صبور))! 

قال لها و هو يقبّلها مغادراً البيت صباحاً الى المكتب: 

_سأحضر الساعة الثانية لاصطحبك الى الغداء.. ثمّ نذهب للتسّوق . 

_ردّت: 

_لكنّني أحضرت معي ثياباً كثيرة ! 

_إنسي ما أحضرت ..لا يجوز أن ترتدي ماهو في متناول العامّة .ما كان الصباح وقتاً مناسباً للشجار،خاصّة أنّه ، في انتظار أن تستيقظ، كان قد أعدّ لها فطور الصباح،ولم يحتس سوى قهوته في انتظارها. 

ستستفيد من الوقت لتوضيب حقيبتها استعداداً للسفر غداً. 

على الغداء،قالت له بشيء من الأسى : 

_يُحزنني أن أسافر من دونك لي أمنية ..أن نأخذ يوماً الطائرة معاً . 

ابتسم بسخرية لا تخلو من المكر. قال: 
221

_تحققت أمنيتك. 

سألته مبتهجة: 

_حقاً..هل تسافر معي ؟

_كنت أني حدث أن سافرنا معاً.. 

ردّت بنبرة واثقة: 

_لم يحدث هذا قطّ! 

أجابها: 

_بدليل أنّكِ لم تعرفي يومذاك كيف تغيّرين برنامج الشاشة أو تشغّلي أزرار المقعد. 

أجابت مذهولة: 

_متى حدث هذا؟

ردّ بابتسامة: 

_هذه أسراري الصغيرة! 

أسراره الصغيرة وجرحه الكبير. 

حتّى في اقصى لحظات سعادته معها،لا يفارقه احساسه بالشكّ في عواطفها تجاهه.ليس هو من تحبّ،بل حبه لها.تحبّ السحر لا الساحر.لكنها تشتهي اولئك الرجال الذين قصدتهم اثناء بحثها عنه. 

لم يحدث لامراة قبلها ان اعطته ذلك الإحساس بالضآلة.أن ألغت وجوده وهو ملء عينيها في المطار،وعلى بعد مقعد منها على مدى اربع ساعات في طائرة. قال معتذراً وهما الى طاولة الغداء: 

_تمنيّت لو اصطحبتك الى اماكن كثيرة ..لكنّي معروف في باريس.سأسعى لنلتقي في مدن آخرى. 
222

أجابت: _لا تعنيني السياحة.. أتفهّم تماماً وضعك .شكراً على ما خصّصت لي من وقتك. 

أجاب: 

_بل شكراً على ما أعطيتني. 

أضاف بعد شيء من الصمت: 

_وشكراً على ما لم تعطيني .أدري في بلاد اخرى تذبح الورود لتُسقى بشرف دمها المراق ارضاً ما صان رجال القبيلة شرفها.كلّ ما أتمنّاه أن تكوني سعيدة وألّا تندمي على شيء . 

قالت بحياء : 

-لم يحدث ان ندمت في حياتي على شيء.((الندم هو االخطأ الثاني الذي نقترفه )). 

-لماذا اذاً تبدين حزينة ؟

-لعلّي امرأة عربيّة تحزن حين يجب أن تفرح ،لآنها ما اعتادت السعادة. أراد آلّا يتحوّل الغداء إلى وجبة حزن،قال لها ساخراً: 

-كلّما أحبّت امرأة رجلاً تمنّت لو كانت عذراء .لكنها عندما تكون عذراء تحزن لآنّها لا تملك جسدها! 

سألته متعجّبة : 

-وما أدراك؟

أجابها بمكر: -النساء اللواتي عرفتهنّ ..كلّهنّ ندمن! 

علّقت بتذمّر الغيرة: 

-عليك اللعنة ! 
223

ردّ بالسخريّة ذاتها: 

-لا تلعنيني.. فقد حدث أن كنتُ الأول! 

قالت لتستفزّه: 

-لا أفهم زهو رجل فتح الطريق لغيره. الفخر ألّا يأتي أحد بعدك! لن تنسى جوابه. قال يومذاك بعد أن أخذ الوقت الكافي لإشعال غليونه وسحب نفس منه: -لن يأتي أحد بعدي! 

بدا لها شهياً ومخيفاً في آن واحد. يدخل حياة امرأة دخول الطغاة، يلغي كلّ تاريخ قبله، واثقاً بأن لا أحد سيأتي بعده! 

تمتمت: 

-حقاً!.. كيف؟ 

ردّ في كلمتين: 

-هذا سّري! 

سرّه ذاك اكتشفته بعد أن تأخّر الوقت: في كلّ ما يقوم به يدري أن لا أحد سيأتي بمثله. في كلّ قصّة حبّ هو لا يُنازل من سبقه أو من سيليه. مثله لا ينازل العشّاق. ينازل العشق نفسه! 

كيف لامرأة أن تنسى رجلاً آسراً ومدّمراً إلى هذا الحدّ، برقّته وشراسته، بغموضه وشفافيّته، بلطفه وعنفه، بحقيقته وتعدّد أقنعته؟ 

كلّ امرأة تملك منه نسخة فريدة من كتاب الحبّ. هي القارئة والبطلة فيه، ولا أحد سيصدّق ما سترويه يوماً. لا أحد. 
224 





((لا نراقص عملاقاً من دون أن يدوس على أقدامنا.)) 

كلود لولوش 



عادت إلى الشام في هبوط اضطراريّ، من تلك الغيمة القطنّية البيضاء، التي أقامت فوقها خمسة أيّام. 

غادرت أحلامها دون مظلة تقيها الارتطام بالأرض. 

عليها ألّا تنفضح بسعادتها، ولا بجوعها الدائم إليه. الشبع بداية الجوع، وهي تحتاج إليه حاجة أنثى اكتشفت جسدها للتّو. 

ارتأت أن تبقى أكثر في بيروت لتكون أقرب إليه. إحساسها يقول إنّه سيتسنّى له زيارتها هناك، لأنّه سيتعذّر عليها إيجاد ذرائع للتردّد إلى باريس. لذا اختارت أن تقيم في شقّة في أفخم أحياء بيروت. 

أبراج فاخرة في الرملة البيضاء تطلّ على البحر. سكّانها غرباء وأغنى من أن يبقوا دوماً في بيوتهم، أو يملكوا وقتاً للفضول. 

صاحت نجلاء: 

-جننت! ستدفعين بدل إيجار يعادل ثمن شقّة في الشام. 
228

-ربّما زارني.. لا أريد أن أبدو أمامه مقيمة في حيّ متواضع.. أنتِ لم تري بيت هذا الرجل ولا عالمه. 

-يكفي أن أراك لأفهم أنّك فقدت صوابك.. ثمّ شقّة كهذه يلزمها أثاث كثير. -بل القليل من الأثاث.. الفخامة لا تحتاج إلى زحمة أشياء. 

-عهدتك بخيلة على نفسك. هل اكتسبت منه عادة الهدر؟ 

-أنا لا أنفق على نفسي، أنفق على كرامتي. أريد أن يرى أنّني أضاهيه ذوقاً. لا أتقبّل منه أيّ نظرة فوقيّة. 

-ومن أين لك المال؟ 

-من الحفلات.. لديّ عروض كثيرة. الصيف على الأبواب.. إنّها مواسم المهرجانات. 



*** 

أخفت عنه موضوع الشقّة تريد أن تفاجئه بها. 

أخفت الأمر عن أمّها أيضاً، حتّى لا يكون عليها تقديم ذرائع غير مقنعة. 

زفّت لها أخبار حفلاتها المقبلة. فاجأها ردّ فعله في تلقّي الخبر. 

سألها بلغة رجل الصفقات: 

-كم ستجنين من كلّ هذا؟ 

وعندما سمع الجواب قال: 

-لا تغنّي في هذه المهرجانات. أنتِ أكبر من هذا الحدث ومن هذا الجمهور. 
229

لم تجرؤ أن تقول له إنّها تحتاج إلى هذا المبلغ وإلى هذه الشهرة. قالت: 

-لكنّ مطربات شهيرات سيغنّين فيه. 

-الشهرة ليست دليلاً على عظمة أصحابها.. أستغنّي فيه فيروز مثلاً؟ 

ردّت بارتباك: 

-ولكنّني لست فيروز! 

-نحن نساوي من نقيس أنفسنا بهم. لا تقيسي نفسك إلّا بالكبار إن شئت أن تكوني كبيرة. 

شعرت بأنّه يريدها نسخة أنثويّة عنه، وأنّها ستخسره إن هي صغرت أوفشلت. عليها أن تختار: أتريد إبرام صفقة خبز مع الفنّ أم إبرام صفقة مجد مع الحبّ؟ لكنّها وقّعت التزاماً بإقامة حفلين، وإلغاء العقدين يوجب عليها جزاءً ليس متناولها. إضافة إلى عجز في دفع بدل إيجار الشقة. في الواقع، ما كانت تملك الخيار. 

قبل حفلها بأيّام هاتفته طمعاً في تفهّمه، تخبره بالتزاماتها تجاه متعهّد الحفل. استمع إليها ولم ينبس بكلمة. وعندما انتهت المكالمة ما كانت تدري أنّ صمته سيدوم شهرين. 

كانقطاع مفاجئ للكهرباء، اختفى صوته بغتة بعد تلك الإضاءة المُعمية للبصر. انقطعت لهفة هواتفه. اتّصلت به مرّتين، لكن كلّما ظهر رقمها على شاشته كان يتعمّد عدم الردّ ليتركها تائهة في خضمّ الأسئلة، يساورها الندم على خطأ اقترفته ولا تدري ما هو. 
230

هو لا يشرح ولا يعاتب. مثله يعاقب، وعليها الاستعانتة بفقهاء الشأن العاطفي ليفسّروا لها لماذا نزل عليها غضب الآلهة. 

تقول نجلاء إنّها ((مناورات عاطفيّة)). كلّما شعر بأنّه مهّدد بفقدانها تخلّى عنها، فانشغلت عن عملها بالعمل على استعادته. حيلة يضمن بها استعادتها من خلال منعها من العمل. إذ يتملّكه إحساس بأنّ الشهرة تسرقها منه. هي محاولة للاستيلاء على روح تتمرّد عليه لأنها حرّة! 

لا تفهم من كلّ ما تقوله نجلاء إلّا كونه يحبّها.. ويريدها له وحده. تهزمها فكرة غيرته عليها وحرصه على الاستئثار بها. تشعر بأنّها ظلمته، تودّ لو اعتذرت له برغم ما ألحق بها من أذى، وبرغم الحفل الذي ذهبت إليه باكية، والذي كن يمكن أن يكون أنجح لو قال لها فقط كلمة. 

ينهار صمودها. تهاتفه. لا يردّ. تبكي.. ويضحك الحبّ. 

سيظلّ يخطئ في حقّها ثم يمنّ عليها بالغفران عن ذنب لن تعرف أبداً ما هو، لكنّها تطلب أن يسامحها عليه. 

هكذا هنّ النساء إن عشقن! 

*** 



أمّها، التي وجدت في همّ العراق ما ينسيها همّها، صارت تقضي جُلّ وقتها أمام الفضائيّات الإخباريّة لمتابعة مسلسل الغزو الأميركي.. وسقوط بغداد. 
231

ذات يوم نادتها على عجل، لتشاهد شيئاً على التلفزيون. توقّعت أن يكون خبراً ما. لكنّ الخبر كان.. أن هُدى هي من تقّدم نشرة الأخبار على قناة ((الجزيرة)). 

كانت تتحدّث عن سجن أبو غريب، وفضيحة تعذيب الجيش الأميركي للأسرى العراقيين. لم تلتقط إلّا جُملها الأولى . أخذتها المفاجأة بعيداً. فلا يمكن لوجدانها أن يفصل بين هدى وعلاء. لقد جاء علاء إلى العالم ليحبّ هذه الفتاة.. ويمضي. 

في كلّ ما طارد من أمنيات، في كلّ ما اقترف من حماقات، في كّل ما تبنّى من عقائد، كانت هي عقيدته الوحيدة. ولذا مات موت المجاهدين، في حادث حبّ، ممسكاً بيده سمّاعة الهاتف، سلاح العشّاق.. الذي تكون فيه حياتهم أو حتفهم! 

يوم حضرت هدى تقدّم لهم العزاء، كانت منهارة، شاحبة، ذابلة، باكية، كانت كائناً من دموع. هشّة إلى حدّ ما كان الإرهابيّون يحتاجون معه إلى قتلها. كان من الواضح أنها ستموت قهراً. 

ربّما كان الرجل صادقاً حين أخبر علاء ذلك المساء، أنّها غادرت الاستديو، ولا يستطيع اللحاق بها، لذا لا يمكنه الحديث إليها. 

لكن، ثمّة احتمال أن تكون رفضت الحديث إلى علاء، لأنّه في رأيها قد اختار صفّ القتلة، وما عاد من فرصةٍ لحبًّ بينهما. وحدها تدري حقيقة ما حدث. كان بكاؤها يومذاك يشي بإحساس كبير بالذنب. 
232

ها هي ذي اليوم، متفتحة كزهرة مائية، نضرة، مشعة، أنيقة، متبرجة بحياء، لكنّها لا تستحي من الرجل الذي أحبّها حدّ الموت، فهو ما عاد هنا ليشاهدها. 

حتماً، ثمة حكمة في الإسراع بإغماض عيون الموتى، حال توقّف قلوبهم عن النبض، فلا بدّ ألّا يروا ماذا سيحدث بعد موتهم، فيموتون أكثر من مرّة. 

لكن أمّها كانت ترى بعينيّ علاء. فكيف لقلبها الفجوع ألّا يعاود البكاء. -يا حبيبي يا ابني.. يا ضيعان شبابك ما إجت إلاّ فيك! 

عكس أمّها، هي ليست عاتبة عليها. لقد دفعت هدى ثمناً باهظاً قبل بلوغها هذا المكان، وحين وصلته، وجدت من بعثوا بأبناء الجزائريين إلى الموت تحت ألوية ((الجهاد)) ما عادوا لاوين على شيء. لقد أنقذوا أولادهم، ويعيشون ضيوفاً مكرّمين في البلد نفسه، مع كلّ من توافدوا من البلدان العربية الأخرى ويحملون العقيدة ذاتها. 

من حقّها إذاً أن تنجو بنفسها، أن تقفز خارج المركب، أن تجذّف حتّى الضفّة الأخرى، فيقذفها البحر كما أفواج الصحافيين إلى الخليج أو أوروبا. لا أحد يرمي بنفسه إلى البحر، دون وجهة واضحة، إن لم يكن القهر قد ألقى به إليه. 

((ليس هناك خطر في أن تكون الباخرة في الماء، المهمّ ألّا تترك الماء يخترقها فتغرق)). لكنّ الماء تسرّب إلى الباخرة، زاد الماء ونضب الهواء. ومن لم يمت مختنقاً، مات غرقاً . 
232

ليس كلّ من أبحر نجا، لهول مصابهم نسي الناس النزعات الإجراميّة للبحر، وصدّقوا أنّه رفيق درب، سيأخذ بأيديهم إلى الضفّة الأخرى، فألقوا بأنفسهم إليه. لكن، ليس للبحر يد ليمدّها لمن جاؤوا على قوارب الموت، ولم يعرف عنه يوماً مصادقة المفلسين. 

تلك المراكب الورقيّة المثقلة بحمولتها البشريّة، يتسلّى بها البحر، يبتلعها وهو يقهقه، ثم يتقيّأ ركّابها. يُعيد جثثهم إلى الشواطئ التي جاؤوا منها، أو يرمي بهم أشباه أحياء إلى الضفّة الأخرى. 

آخر مرّة التقت هدى كانت قبل سنتين. لم يكن قد مرّ على اغتيال علاء إلّا خمسة أشهر، عندما نزل خبر موت الندير نزول الصاعقة، فقد كن كثيراً ما يتردّد إلى بيتهم أياّم علاء. ذاع الخبر بين الناس بسبب شهرة أخته ((مسكينة.. هاذيك الزينة اللي تقدم الأخبار.. خوها مات مع ((الحراقة)) هاج عليهم البحر مساكين.. ما نجاو منهم غير زوج)). 

لترف الموت، باتت له صرعاته، وموضته، وتشكيلته الجديدة كلّ موسم. وهكذا، قبل ((الموت حرقاً))، وصلت موضة ((الموت غرقاً)) إلى الجزائر، بعد أن تفشّت في كلّ بلاد المغرب العربي. راح اليأس يفصّل لأتباعه أكفاناً عصريّة، من قماش الأوهام الجميلة. لماذا انتظار العالم الآخر لدخول الجنّة التي يَعدُها بهم الإرهابيّون، إن كان بإمكانهم بلوغها في بضع ساعات على ظهر مركب؟ 

تكوّنت طوائف انتحاريّة من أحفاد طارق بن زياد، الذي أحرق خلفه المراكب، حتى لا يترك لجنوده إلّا احتمال الوصول منتصرين أو الموت. مثلهم، ما أخذوا معهم سترات للنجاة، ولا علّقوا زوارق مطاطية على جانبي مركبهم. نسوا أن الغدر غريزة أولى لدى البحر. 
234

ليكونوا أهلاً بتسميتهم ((حراقة)) ألغوا أيّ احتمال للرجوع، بإحراقهم جوازات سفرهم وأوراقهم الثبوتيّة. حتى لا يتركوا لحرّاس الشواطئ على الضفة الأخرى إمكان طردهم من ((الجنّة))، إن هم وصلوها أحياء. فسيكون صعباً على بوليس الهجرة فكّ فوازير أصولهم، ومعرفة من أين جاؤوا، وإلى أين يجب ترحيل هؤلاء القادمين من بّوابة البحر الواسعة. 

أمّا إذا غرقوا فلن يدقّق البحر في هوّيتهم، ستختار الأمواج عنواناً لقبورهم. أولئك الذين ما كانوا يملكون شيئاً يعزّ عليهم فراقه، عدا أهلهم، كيف لا تحمل الأمواج آخر رسائلهم، وهم يصارعون عزّلاً آخر موجة ستسحبهم حيث لا عودة. الرسائل غدت أغاني ((راني في الموج نتقلّب يا امّا الحنينة.. ما بقى لي رجوع.. إداني البحر.. محُال اِنوَلّيِ)). 

الندير أيضاً ((أدّاه البحر)). أخذه حيث ((محال يِوَلّيِ)). حتّى جثمانه محال يرجع، يحتاج إلى تدقيق وإجراءات واستجواب من لا يزال حياً من رفاق رحلته للتعرّف إليه، هذا إذا عثروا على جثته تطفو مع عشرات الجثث، ولم تنته وليمة للحيتان، عندئذ تبدأ الإجراءات والمصاريف الباهظة لاستعادة جثمانه. أمّا الذين يعودون أحياءً، فسيواصلون كابوسهم في السجن. فالدولة التي تدلّل الإرهابي لأنه عاد بعد ضلالة، تُجرّم من هو جاهز للانتحار، لأنها وحدها تملك حق قتله بالتقسيط. 
235

زاد من مأساة أهله أنه مات في شهر رمضان. فالحرّاقة يفضّلون الإبحار في رمضان، حتّى ينطلقوا عندما يكون حرّاس الشواطئ مشغولين بتناول الإفطار، فلا ينتبهون لمراكبهم حين تبحر ساعة رفع أذان المغرب. 

آخر مرّة اجتمع بأهله كانت حول طاولة السحور. خافِت الإضاءة كان صوته، كفنار بحري في ليل ماطر. ما انتبهوا أنه كان يودّعهم. في اليوم التالي ادّعى أنّه مدعوّ إلى الإفطار. قبّلهم وطلب ألّا ينتظروه. لحق بوالدته إلى غرفتها، كانت تستعدّ لصلاة العصر، احتضنها وقال ((امّا ادعي لي دعوة خير)). قالت ((دايماً ندعيلك يا وليدي.. كاين حاجة مقلقتك؟)) أجاب مُبعداً شكوك أمومتها ((رايح انشوف ناس اليوم إنشاالله نلقى شغل)). قالت ((روح يا وليدي الله يفتح لك كلّ باب وينصرك على عدياناك)). 

وفتح الله له أبواب البحر.. لكن لم ينصره على أمواجه! 

لربّما أبحر صائماً، وآخر وجبة طيبة كانت سحوره، فليس على المركب من مكانٍ لحمل زاد الأكل. سماسرة الموت لا يريدون إثقال مركبهم بالمؤونة، يفضّلون بدل حمولة الطعام.. كسب 2000 يورو من راكب إضافي. 

ككلّ الذين أبحروا متعلّقين بأقدام الموت، طمعاً في الحياة، ترك الندير رسالة اعتذار ومحبّة لأهله، إذا لم يصل. باع قبل سفره جهاز الكومبيوتر ليجمع ما يكفي من المال ليدفع تكلفة رحلته. كانت هذه أول مرة يتخلى فيها عن جهاز الكومبيوتر مًدعياً أنه باعه ليشتري آخر جديداً. 

في جميع الحالات، ما كان بإمكانه أن ياخذ حاسوبه معه.. لا حقائب للحرّاقة إلّا أجسادهم. حتّى في جيوبهم لا يحملون شيئاً، فليس للكفن جيوب. 
236

الندير الذي عاش لسنوات يتلصّص، من خلف شاشته، على الذين يعيشون على الضفّة الأخرى، أبحر نحو مدن لا توجد إلا في رؤوس الحالمين. كان الموت فيها هو الواقع الحقيقي الوحيد. 

*** 

كان عليه أن يتناولها بجرعات محدودة، لكنّه أكثر منها، فنحن من نصنع عبوديّتنا ونضفي السحر على من نشاء. 

كيف وقع تحت فتنة هذه الأنثى؟ هل لأنّها أهدت له رجولته؟ أم لأنّه يطمع أن تهدي إليه إنسانيّته؟ برغم أنّ براءتها تلك تزعجه، وعنادها يُتعبه. ثمة إغراء في أن تكون المرأة ماكرة ومتطلّبة. يطمئنه أن تستغلّه، كيف يرتاح لامرأة لا تحتاج إليه؟

آخر خلاف بينهما كان قبل شهر في باريس. كانا يسيران قرب محالّ فاخرة للمجوهرات، حين خرج مدير أحد المحالّ يسلّم عليه بحرارة بعد أن لمحه يعبر الرصيف. ارتأى أن يستغلّ المناسبة ليقدّم لها هديّة. قال: 

-كنت أنوي أن أهدي لك ساعة.. إنّها فرصة. تعالي واختاريها ينفسك. سبقهما مدير المحلّ إلى الداخل. ووقف الحارس بقبّعته وبذلته الممّيزة ممسكاً بالباب، لكنّها أجابته بعصبيّة فاجأته: 

-لن أغّير الساعة التي في معصمي! 

-لكنّني لا أحبّها. 

-اشترِ إذاً معصماً آخر لساعتك! 
237

كاد يخرج عن طوره والرجل يقف منتظراً دخولهما.. بينما مضت وتركته واقفاً عند الباب لا يدري كيف يتصرّف. 

قال لها بعد ذلك غاضباً: 

-كيف تهينينني هكذا أمام الرجل؟ 

-بل أنت من أهنتني.. هذا محلّ مررت به مع نساء قبلي. ما كان ليُحتفي بك هكذا لو لم تكن زبوناً دائماً. 

وجد نفسه يدافع عن نفسه: 

-اعتدتُ شراء ساعاتي وهدايا لزوجتي من هذا المحل. 

-ما كنت لتصطحبني إليه لو أن زوجتك زبونة لديه. 

أسقط بيده. قال متذمراً: 

-أخطأت حين فكرت في أن أهدي إليك شيئاً! 

ما كان كلامه ليعنيها. كانت مشغولة بالتساؤل: أحدث أن اشترى ساعة مرصّعة بالكثير من ألماس الوقت من أجل لحظات قليلة؟ هل اقتنى وقتاً باهظاً ظنّه ثمن العواطف الأبديّة، فإذا به وقت عابر لامرأة أهدى لها ساعة عندما تعذّر عليه أن يهدي لها وقته؟ 

لا تدري.. أدفاعاً عن كرامتها أم بسبب غيرتها كانت عنيفة وصارمة إلى حدّ فاجأه. لكنها عادت وسامحته. شفع له في قلبها سلّة الورد التي أرسلها لها قبل يومين وبداخلها جهاز هاتف، كيف له أن يفهم منطقها في الكسب والخسارة! 

في المساء، إلى طاولة العشاء، قالت له: 

-اعذرني، لا أريد أن أكون تكراراً لم عرفت قبلي من نساء. أتمنّى ألّا تفعل معي ما سبق أن فعلته مع غيري. 
238

أشعل غليونه وقال بعد شيء من الصمت: 

-ثمّة أمر ما فعلته إلّا معك، لا تسأليني ما هو.. لن تعرفيه منّي أبداً! 

أكان تصريحاً في منتهى الصدق أم في منتهى الخبث؟ 

كمن يطلب منك أن تعثري على اللؤلؤة الطبيعيّة الوحيدة وسط عقد من اللآلئ الاصطناعيّة. أيّ لعبة هذه مع صائغ بارع. لا يغشّك تماماً، لكن مع كلّ ما يفعله يعطيك وهم احتمال امتلاك اللؤلؤة النادرة الوحيدة. 

بإمكانك طبعاً عن كبرياء أن ترفضي عقد اللؤلؤ، الذي سبق أن أهدى حبّاته لغيرك، كما رفضتِ عرض الساعة التي كان سيشتريها لك، من محلّ ارتاده قبلك مع سواك، وستمتلئين زهواً لأنّك قلبت اللعبة.. وحجّمت ثراءَه حدّ شعوره بأنّك أنت اللؤلؤة النادرة! 

وعندئذ، تقول نجلاء، وقد أهنت ماله، و((قرّفتيه حياتو))، ستأتي امرأة أكثر شطارة وأقلّ صدقاً، لن تسأل.. لن تدقّق.. لن تفكّر.. لن تحزن.. ستتلقّف كلّ ما زهدتِ فيه، غير معنيّة بالفرق بين اللآلئ الاصطناعيّة وتلك اللؤلؤة الطبيعيّة. وحده الحبّ مصدر للأسئلة الموجعة. أحبّيه أقلّ.. أحّبيه بعقل يا ختي! ردت: 

-تأخّر الوقت.. لن أقبل منه سوى الجنون هديّة! 



((المال لا يجلب السعادة لكن يسمح لنا أن نعيش تعاستنا برفاهية.)) 



رنّ هاتفها طويلاً ذلك الصباح. كانت تأخذ حمّاماً فتأخّرت في الردّ. ما توقّعت أن يكون هو، وحين راحت موسيقى الدانوب الأزرق تتعالى في أنحاء البيت.. خرجت مسرعة خشية أن تردّ أمها على الهاتف. لم يقل صباح الخير، لم يقل أهلاً. قال: 

-هل تسمحين لي بهذا الفالس؟ 

فقدت صوتها وهي تسمع صوتاً انتظرته شهرين كاملين على مدى الليل والنهار، ردّت تحت صاعقة المفاجأة: 

-أيّ فالس؟ 

أجاب بنبرة عادية: 

-أنتظرك هذا المساء على العشاء في فيينا.. عندي لك مفاجأة جميلة – واصل قبل أن ينهي المكالمة – أحضري ثياباً للسهرة وذلك الثوب الأسود الذي ارتديته في القاهرة. 
242

راح قلبها يخفق لمجرّد سماعه، حتّى غطّى على كلماته. جلست على الكنبة بشعرها المبلّل تفكّر في ما سمعته. ثم عندما لم تعِ شيئاً مما قاله عاودت الاتّصال به. 

-أنت تمزح! 

-أبداً. 

-هل ثمّة مناسبة معيّنة؟ 

-ثمّة دائماً مناسبة. 

-هل لي أن أعرفها؟ 

-وما الجدوى؟ 

-لكنّني لست جاهزة. ألا يمكن أن ينتظر الأمر يوماً أو يومين؟

-من يفرّط في الحبّ بدقيقة بإمكانه أن يفرّط بأكثر.. كيف تستطيعين الانتظار يومين! 

لا تدري بأيّ منطق تردّ عليه.. أليس هو من قاطعها شهرين؟!

وهي في جميع الأحوال غير جاهزة لهذا السفر. 

-أحتاج على الأقلّ إلى يومين. لديّ التزامات كثيرة.. 

-كلّ ماتحتاجين إليه هو حجز تذكرة على متن الخطوط النمساويّة. الساعة في بيروت الآن التاسعة والنصف. ثمة طائرة تغادر عند الثالثة وأربعين دقيقة وتصل فيينا عند السادسة والنصف. سائق الفندق سيكون بانتظارك في المطار. 

ظّلت تستمع إليه بذهول، وقبل أن تلتقط أنفاسها، واصل: 

-لن أردّ على الهاتف بعد الآن.. أنتظرتك في بهو الفندق. 

قطع عليها الطريق إلى الأعذار. إنّه الجنون مدفوعاً إلى أقصاه. 

وهل كانت حقًّا لترفض؟ إنّها تضاهيه حنوناً. هذا رجل يعيش في عين الإعصار.. الحبّ معه دوار دائم. 
243

ظلّت جالسة مكانها للحظات تفكّر في كلّ ما ستحدثه هذه الرحلة من فوضى ..حتماً جُنّت .كيف تلغي موعدًا مع استديو حجزته . يحتاج الامر الى مراجعة برنامج جميع أفراد الفرقة واحداً واحدًا. 

نظرت الى ساعتها من جديد .. شهقت. يالله! الوقت يمّر بسرعه ما تحتاج اليه اوّلاً هو كذبة قادرة على إقناع والدتها بمبّرر سفرها المفاجئ، ثمّ الإسراع الى الحلاّق لتصفيف شعرها أمّا الحجز فستتكفّل به نجلاء و كذلك الغاء التزاماتها الاخرى . 

كسدًّ تحطّمت حواجزه . كان بعد كّل قطيعة يعود اكثر و لهاً و تلهفاً وتدفقاً , فيجرفها الشوق المستبدّ إليه .. و يحملها الطوفان من جنون الى آخر . 

علّقت نجلاء و هي تراها تركض في كلّ الاتّجاهات و ترمي ثيابها في الحقيبة : 

_العجيب أنّ هذا الرجل بإمكانه أن يأتي بك حين يشاء... 

_بل حين يستطيع ... 

_بينما ليس من حقّك القول (( لا استطيع )). 

_ الحبّ يحتاج الى أن يتجاوز ما هو متاح ليكون حبًّا .. 

فليكن.. عزيزتي ،المتاح الان هو تذكرة على الدرجة الأولى بأغلى سعر ممكن لأنّك تحجزين قبل إقلاع الطائرة بأربع ساعات . 

_لا يهّم، سأعطيك شيكاًّ بالمبلغ. 

_تدرين , أكثر ما أخافه هو أن يشوّش هذا الرجل علاقتك بالمال , ثم تكتشفي يوماً أنّك كنت تنفقين بمقياسه لا بإمكاناتك. للمناسبة , اتّصل صاحب الشقّة يطلب بدل ايجار الأشهر الثلاثة المقبلة ! 
244

صاحت: 

_كأنّك تتعمدي ازعاجي 

_اتعمّد تذكيرك .. الحبّ يصيب بفقدان الذاكرة.. 

كان الوقت تأخّر كثيراً للذهاب الى الحلاّق . انتهى بها الأمر الى الاستنجاد بنجلاء أيضاً لتصفّف شعرها في البيت . كانت فرصة نجلاء لتقدّم لها آخر تعليماتها و هي تقوم تلّمس شعرها بالسشوار مستفيدة من وجودها تحت رحمتها على كرسيّ : 

- احتفظي بقدميك على الأرض ,هذه علاقة لا أمل منها ... غداً تنتهي السفرة , و تطير السكرة , وتعودين ممسكة بسراب .. تذكّري انه رجل متزوّج لن يتخلّى عن زوجته مهما أحبّك .. استمتعي بوقتك , لكن حاذري أن تقدّمي له نفسك . 

ردّت عليه بعصبّية : 

و هل عندك تعليمات أخرى ؟

-بلى . لا تخبريه بما حلّ أثناء قطيعتكما أو تبكي . الرجل لا يتعلّق بامرأة يّبكيها بل بمن تُبكيه, إن عرفتِ الفرق بين الاثنين في هذه الحالة تحديداً فستكسبين الجولات كلها. 

- لكنّني لست ذاهبة الى معركة ! 

كلّ لقاء مع رجل هو حرب غير معلنة .. و كلّ حبيب يمكن أن يغدو مشروع عدوّ في ايّ لحظة ! 

نجلاء لم تُشفَ من تجربتها . هي تقيس الرجال بذلك الذي أثّثت بيته و ضحك عليها و مضى إلى الإمارات يتزوّج غيرها , ربّما لأنّها بدل أن تبُكيه .. راحت تبكي امامه و تشكو ظلمه لها . 
245

قالت له مازحةً و هي تجمع أوراقها و جواز سفرها قبل المغادرة إلى المطار : 

-كان عليك أن تشرفي على باب لإسداء النصائح العاطفيّة في إحدى المجلّات النسائيّة. 

-وهل نجحت في نصحك لأسدي النصائح لغيرك؟ إنّي أضيّع وقتي , هذا الرجل أخذ عقلك – واصلت بنبرة مستسلمة – طيّب يا أختي على الأقلّ احكيني قولي لي شو عم بيصير .... مش معك موبايل . نيّالك بكرة بس يرخصوا رح إشتري خطّ .. أنا التلفون هو رجل حياتي ! 



*** 



حطّت في مطار فيينا مشياً على سولفيج الأحلام. كما لو كانت تقفز على نوتات بيانو، بخفَّي راقصة باليه. 

نزل قلبها وصعد مراراً السلّم الموسيقي، حتّى خافت أن تتعثّر بفرحتها. كانت الأولى في كلّ طابور. 

عند مخرج البوّابة، كان أحدهم يحمل لوحة صغيرة كُتب عليها اسمها. إنّه حتماً سائق الفندق. 

أخذ عنها الحقيبة، وبينما كانت تلحق به، اقترب منها أحدهم مسلماً بحرارة بالفرنسية: 

-عذراً.. أنا أحد معجبيك. لم أكن واثقاً أنّك أنت إلّا حين قرأت اسمك على اللوح. هل أنت هنا لإقامة حفل؟ 

ردّت معتذرة على عجل: 

-لا.. أنا هنا في زيارة خاصّة. 
246

قال متأسّفاً: 

-كان سيسعدني أن أسمعك مجدّداً. حضرت حفلك في دبي قبل شهرين.. كان رائعاً. هذه بطاقتي. يسعدني أن أدعوك إلى الغداء أو العشاء متى سمح وقتك. 

أخذت منه البطاقة دون أن تدقّق في الاسم. شكرته مجدّداً ولحقت بالسائق. بعد عشرين دقيقة، توقّفت السيّارة أمام مبنى في فخامة قصر عريق من الزمن الجميل، مطّوقاً بالحدائق. ما توقّعت أن يكون فندقاً. كان مهيباً حدّ جعلها تراجع كلّ حركة تقوم بها، وهي تجتاز بّوابته الذهبيّة البالغة الفخامة. 

ما كادت تدلف إلى الداخل حتّى رأته جالساً في صالون البهو يتحدث على الهاتف. 

ظلت واقفة بانتظار أن يُنهي مكالمته، كان أنيقاً أناقة لافتة. 

تأمّلته بارتباك الفراق والقطيعة واللهفة والتحدّي. عبرتها أحاسيس متضاربة متداخلة متأخّرة، كهزاتٍ ارتداديّة لزلزال عاشته أثناء قطيعتهما. 

توجّه نحوها مرحّباً. لم يضمّها. أخذها بما أوتي من نظر. 

جاءته جميلة كمكيدة. هذه الأنثى التي كلّما رفع سقف التحدّي عالياً، قفزت أعلى من توقّعاته، لتثبت له أنّها أنثى التحدّيات الشاهقة. 

لم تعرف. أتصافحه؟ أتقبّله؟أتضمّه؟ أم تلعنه؟!

قالت مستنجدة بضحكة: 

-ها قد جئتك.. إنّي أضاهيك جنوناً! 
247 


أجاب مزايداً: 

-لنقل إنّ جنوني مُعدٍ! 

رفع يدها إلى فمه، وضع قبلة عليها، وقال: 

-شكراً على قدومك، هذه لحظة خرافيّة! 

ليست اللحظة وحدها، كلّ شيء كان خرافياً في أبهته وفخامته. كان قد حجز جناحين متصلين بباب. الجناح شقة من عدة صالونات، وسرير ملكي شاسع، ومغطس حمام دائر، وستائر تنزل من علوّ خمسة أمتار أو أكثر. لاحقاً ستعلم أنّه قصر حُوِّل إلى فندق. 

لكنّها قرّرت ألا تُبدي انبهارها بشيء. وحدهم الفقراء ينبهرون. 

ستتصرّف كما لو أنّها الإمبراطورة ((سيسي))! 

ضمّها إليه طويلاً، لثمها، ثم قال: 

-سعيد أنّك جئتِ. علينا ألا نتأخّر.. يجب أن نستعدّ للعشاء. 

هل أحضرت ثوب السهرة الأسود.. ذاك؟ 

ضحكت: 

-وهل كان يمكن أن أنساه! 

-ارتديه إذاً.. السهرات هنا تحتاج إلى ثوب طويل. ثم إن الأسود يليق بك! ترك لها غمزة ابتسامته، وانصرف إلى جناحه يبدّل ثيابه. عندما عاد توقّف للحظة يتأمّلها منخطفاً بحضورها.

كانت قد رفعت شعرها إلى الأعلى.. وضع قبلة على عنقها، كما لو كان يلفّها بشال من القُبل، أو كمن يقبّل عنق فراشة دون المساس بجناحيها. كانت فصاحة رجولته تكمن في دقّة انتقائه لموضع القُبل التي يرصّع بها أنوثتها، بخبرة صائغ. 

248

قرأ مرّة نصيحة نسائّية لشانيل ((تعطّري حيث تودّين أن يقّبلك رجل)). أجمل منها وصفته: أن يضع الرجل قبلة حيث تودّ امرأة أن تتعطر، تاركاً خلفه كيمياء قُبل من شذىً وأذىً، ومن مكرٍ وعنبر، لا نجاة لامرأة من عبقها. قال وهو يخاصرها مغادراً الجناح: 

-كم اشتقت إليك.. 

في مرآة المصعد، رأت كم هما جميلان معاً. 

إنه لها. هما حقاً زوجان.. هذا ما استنتج قلبها. مشت إلى جانبه من بهو إلى آخر بخطوة ملكيّة، وبرأسٍ مرفوع كأنّها تحمل فوقه شمعداناً. 

شاهدت مرّة على التلفزيون عارضات أزياء يتدرّبن على المشي، تضع واحدة منهنّ دليل الهاتف الأصفر السميك على رأسها فيبقى مرفوعاً. 

الشموح أمر آخر، يوجد في رأس المرء.. لا فوق رأسه. 

من حيث جاءت، يولد الناس كذلك، عندما تولد بمحاذاة الأوراس، تحتاج إلى أن ترفع هامتك لترضى بك جبال الأوراس صديقاً. 

فكرت أنّ عليها أنت تنسى بساطتها، وأن تمشي بقامة مستقيمة واثقة.. وإلّا أهانها المكان، وغداً أصغر شيء فيه أكبر منها. إنّها تحتاج إلى شموخها لتدافع عن نفسها ضدّ هذه الفخامة، ليس أكثر. 

توقّف أمام باب كبير مزخرف بالنقوش الذهبية. دخلا إلى قاعة عريقة، تغطّي جدرانها المرايا والإطارات الذهبيّة، يعلوها سقف مزدان بالرسوم الزيتّية، تتدلّى منه ثريّات ضخمة. 

249

حال دخولهما، راحت فرقة مكونة من ستة موسيقيين تعزف مقطوعة بهيجة الإيقاع لتحيّتهما، بينما سبقهما نادلان في كامل أبّهتهما إلى طاولة بيضويّة مجهّزة بديكور شبيه بديكور الأفراح. شرشف من الأورغانزا مشكوك بأقواس من ضفائر الورد.. وعلى وسط الطاولة تستلقي ورود أخرى وشمعدان ومقبّلات رفعت على قواعد فضّيّة. انتابها شعور بكونها مدعوّة إلى حفل زفافها. 

جلسا متقابلين إلى طرفي الطاولة. الوجاهة تحتاج إلى مسافة. كانت تبعد تلك القطيعة متلهفة للاقتراب منه. تحتاج إلى أن تلمسه.. ان توشوشه.. لكن وحدهم البسطاء يتقاربون ويتلاصقون. 

تساءلت كيف سيتسنى لهما تبادل الحديث على هذه المسافة. ثم استنتجت أنّ الوجهاء لا يتحدثّون كثيراً.. حديثهم محض مجاملة. الثرثرة من صفات العاديّين من الناس.. أو العشّاق. 

ألهذا يحدث للحبّ أن يقلب هذه الطاولات الفاخرة على الجالسين حولها، ويمضي بعشّاقه إلى حيث الحياة أكثر بساطة؟ 

هكذا فعل إدوارد الثامن حيث ألقى بتاج الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وغادر الطاولة، ليلحق بحبيبته المطلقة. وهكذا فعلت من بعده ديانا، إذا قبلت تلك الطاولة الملكية على رؤوس أصحابها، ومضت تلتهم وجبة حبها الأخير. 

شرح لها، شبه معتذر، أنّ القاعات هنا غير مهيّأة في الواقع للعشوات الانفراديّة، وأنه اختار أصغر قاعة في الفندق. 

كانت الطاولة ذات الشكل البيضويّ تتّسع لستة أشخاص. 

ردّت مازحة: 

250

-لا بأس.. ما دامت الأماكن الشاغرة على هذه الطاولة أقل من المقاعد الشاغرة في ذلك الحفل بالقاهرة. أنت في تحسّن.. مع الوقت والمثابرة، ربّما عثرت بعد أعوام على مكان لا يتّسع إلّا لمقعدين! 

ضحك لتعليقها. يحبّ سخريتها، إنها دليل صبا وعافية نفسيّة. كم كان يزعجه الجلوس إلى نساء يأخذن أنفسهن مأخذ الجد، حدّ إصابتك بالكآبة. 

بد لها وسط تلك الأبّهة في أجوائة الطبيعيّة، لا ينبهر بشيء، كما لو أنّه دعاها إلى العشاء في بيته، بينما كانت في دهشة دائمة لعالم لم تشاهده سوى في الأفلام. لاحقاً، وهي تكتشف معه بانبهار سرّي عوالم لا عهد لها بها، أدركت أن الفقير ثريّ بدهشته، أما الغنيّ ففقير لفرط اعتياده ما يصنع دهشة الآخرين. 

انتهى بها الأمر سعيدة بوجودها على الطرف الآخر للأحلام. الشاعريّة تحتاج إلى مسافة.. وكذلك الرغبة. 

هو حتماً تابع تفاصيل هذا العشاء، واختار المقطوعات التي ستُعزف ومتى، وزينة الطاولة، وما سيقدّم عليها من أطباق، والمكان الذي سيجلس فيه كلّ منهما. ربّما أيضاً أعدّ ما سيقوله على طاولة تشبه طاولة عروسين. لكنّه قال وهو ينظر إليها في هيبة حضورها القصّي: 

-أحبّ عري كتفيك هكذا.. يذكرني بماريا كالاس دائماً في ثوبها الأسود، وولها لأوناسيس ((أيّها السيّد الإغريقي، اصنع منّي عباءة لكتفيك!)). 

251

ردّت: -لا أعرف هذا القول.. لكن أعرف أنّه تخلّى عنها برغم ذلك. كان عليها أن تقول ((كن عباءة لكتفيّ)) عندنا الرجل هو عباءة المرأة وبرنسها. كأنّه سمع ما لم تقله، ردّ مازحاً ومصحّحاً: 

-أيّتها الفتاة البربريّة، اغفري لذلك الإغريقي ذنبه.. أعدك أن يحقّق السّيد الفينيقي أمنيتك! 

يا له من سيّد فينيقي! 

امتلأت سعادة. التقطت ما لم ينطق به. لقد جاء بها إلى هنا ليخبرها أنّه سيطوّقها بعباءته، ويخفيها تحتها إلى الأبد. كما رجال قبيلتها، عندما يرفع أحدهم وهو يراقص امرأة طرف برنسه ليغطيها به، كي يقول لها إنّها تحت جناحه وإنّها محظيتّه. 

لم تعلّق على كلامه. كانت من السعادة بحيث يكفيها أن تتأمّله وتفكّر في كلّ تلك الدموع التي ذرفتها بسببه خلال شهر كامل. لن تسأله لماذا كلّ تلك القسوة، ولماذا يغدق عليها اليوم كلّ هذه النشوة؟ دوماً كان جامحاً في مجيئه، صارماً في رحيله، يملك طغيان البحر مداً وجزراً. 

كانت جائعة، لكن ما أوصى به مسبقاً للعشاء، لم يتضمّن شيئاً تعرفه. كانت الأطباق راقية إلى حدّ لا تدري معه ماذا تأكل، فكبار الطهاة ما عادوا طّباخين، بل أصبحوا كيميائييّن يختبرون في كبار القوم أطباقاً تزاوج بين مذاقات ومكوّنات غريبة، للتميّز عما خلقته الطبيعة من مذاق. 
252 
ثم إنّ الفخامة تقتضي أن يُقدّم الطعام بكمّيات قليلة، في صحون بورسلين كبيرة وثمينة .الصحن المليء بالأكل، قلّة ذوق تجاه أناس ما خبروا الجوع، أو لعلّهم يأكلون في البيت، ثم يقصدون المطعم. لكأنّ البعض يرتاد المطاعم الراقيه ليتفّرج على زينة الطاولات، فهنا الصحون أثمن من محتوياتها، إنها لا تعود لولائم الزمن الارستقراطيّ الغابر، لا شيء من تلك (الزردات) التي تربّت عليها، وما زالت تُقدم في المناسبات الاجتماعيه في كل البيوت الجزائريّة، في (قصعة) خشبيّه مصنوعه من جذع شجرة ضخمة، يتمّ إحداث تجويف داخلها عمقه عشرون سنتمتراً بحيث يمكن لكميات الكسكسي الذي يقدّم فيها مزداناً بقطع اللحوم والخضر، أن يجمع حوله كلّ الأيدي ويُطعم كلّ من يحضر. 

لاحقا، ستدرك أن من يجلس أمام صحن كبير، وُضعت عليه كمية صغيرة من الأكل، ليس مستعدا لاقتسام أشيائه الخاصة مع أحد، حتّى مع أقرب الناس إاليه .لا جدوى من اختباره بتعريف يقول (الحب هو مقدرة شخصين على استخدام فرشاة أسنان واحدة ) ! 

ابتسمت لأفكارها الطريفة. فقد راحت تٌجري حديثاً مع نفسها، ما دام يتعذّر أن توشوشه بما كانت تودّ قوله . 

كان كلّ شيء حولها جميلاً كحلم. بدا لها كأنًّها تعيش فيلمًا سينمائياً وتشاهده في الوقت نفسه. حتماً هي تحلم .من أجلها تُعزف ألحان شوبان وشتراوس، وأمامها الرجل الذي تعشقه يحتسي نبيذا فاخراً ويسألها وهو لا يراها تأكل كثيراً:

-هل أطلب لك شيئاً ؟ 

253 

ردّت بمزاح يخفي أمنية حقيقيّة: 

–خلتك جئت بي كي تطلب يدي ! 

كانت المعزوفة قد أنتهت ..توجّه صوبها وهو يمّد يده نحوها: –هاتي يدك.. أريد أن تهدي لي هذه الرقصة. 

هرع النادل يسحب كرسيّها. 

هو لم يجب عن سؤالها، بل ترك لها بصيغته تلك أسئلة جديدة. هل يريد يدها عمر رقصه ؟ أم يطلب يدها لكلّ العمر ؟ لا قال (لا) ولا قال (نعم)، لم تدر أنه يجيب بجملة لإخفاء كلمة. 

ردّت مرتبكة : 

-لكنّني لا أجيد الرقص! 

قال وهو يخاصرها ويمضي بها نحو القاعة: 

–أريد أن أراقص قلبك لا قدميك. 

حتماً هو برمج كلّ شيء. ما كادا يقفان وسط القاعة حتّى انطلقت النوتات الأولى لموسيقى الدانوب الأزرق. 

وضع يداً أسفل ظهرها، كما لو كان يطوّق فراشة، ثم بيده الأخرى أمسك بيدها ورفعها كي يدور بها في فالس يزداد تسارعاً كتسارع احلامها به . 

كانا عاشقين يرقصان في قاعة تتضاعف فيها خطاهما بعدد مراياها، فيزدحم بهما الحبّ نشوة. كيف القبض على هذه اللحظات الباهرة في بذخها ؟ لا تريد امتلاك المكان بل اللحظة، هذا الدوار العشقي تريده دواراً أبديًّا. يده الممسكة بيدها لأول مرة، تريد أن تستبقيها، كي تواصل الدوران إلى الأبد في عين إعصار النشوة. 

254

هذا رجل لا تتّسع نشوته لقاعة، إنه يرقص على حلبة الحياة.يرقص كما يحيا بالاشتعال نفسه ،بحركات أنيقة خفيفة متناغمة. يملك حسّ الإيقاع و فن المسافة بين كائنين،والقدرة على أن يهدي إلى من يراقصها جناحين. 

قبّل يدها.صفّق امتناناً للعازفين،وايذاناً بانتهاء السهرة.قصد الطاولة،اخذ غيلونه،ترك إكراميّة..وغادر وهو يخاصرها. 

كان في الجوّ من السعادة ما أصابها بالخدر.. 

مثل راقصة باليه واقفة على رؤوس أصابعها بعد انتهاء العرض، لم تكن تقف على قدميها. ما كان لها من قدمين. 

تعذّر عليها المشي مجدداً على الأرض. ماذا تفعل بجناحيها؟ من تسأل عن هذا الإعصار الذي يحملها، ولا مرأة حولها أحبّها رجل بهذا القدر.. ولا امرأة عاشت حلماً خرافياً كالذي تعيشه.

رافقها إلى جناحها، قال وهو يدلّها على باب لم تنتبه لوجوده:

-هذا الباب يفتح على جناحي، عندما تشعرين بالرغبة في الانفراد بنفسك، يكفي أن تغلقيه. لن أزورك إلا إذا وجدته مفتوحاً. 

ردّت وقد فاجأها نبل عرضه: 

-أنا في ضيافتك ولن أغلق باباً في وجهك. 

-ولأنك في ضيافتي، سأحرص على ألا تكوني رهينتي.. أظنّك متعبة بعد يوم من السفر.. سأدعك تخلدين للنوم. 

أمام صمتها، واصل وهو يراها على خطوة منه تفكّ شعرها: 

-ما أجملك لو تدرين! 

255

كان ثغرها في صمته يقول ((خذني)) فلبّى النداء. 

لم يقبّلها بشفتيه.. كان كلّه شفاهاً. 

ثم، كما ينسحب بحر المحيطات ليلاً.. انسحب، تاركاً لها قرار الباب. 

يا له من رجل! لم تنم تلك الليلة إلّا في ساعة متقدّمة من الفجر، ورأسها تحت الوسادة. ما توقّعت أن باباً سيمنعها من النوم، ولا أنّ الفخامة ستؤذيها، وتجرّدها من روحها إلى هذا الحدّ. كيفما تقلّبت، كانت تطوّقها الجدران المذهّبة ورأس السرير في ضخامته والسقف والثريّات والستائر.. وحتّى الرجل الذي ينام في الجناح المجاور ما عادت تعرف من تكون بالنسبة إليه.. وهل تراه يفكّر بها خلف ذلك الباب؟ وما دام الباب يُفتح من الجهتين، لماذا ترك لها وحدها حقّ المبادرة بفتحه؟ 

خلف الباب، كان ينام فارس من الزمن المعاصر، يحبّ تدليل فريسته، لأنه في كلّ ما يفعل يدلّل نفسه أوّلاً، وفي كّل قانون يضعه، يتضّمن البند الأوّل، أن يكون هو السيّد الأحد. إنه سيد الباب، وسواء أغلقته أم تركته مفتوحاً، فهو من أوجده، ووضع قانونه. حتّى في نبل كرمه، وعزّ شهامته، هو يملك جبروت المسافة. 

*** 

256

سألها في الصباح ماذا تريد أن تزور في فيينا. أجابت: 

-ليس لدّي أيّ فكرة عن هذه المدينة.. لكّنني شاهدت قبل سنوات فيلم ((الإمبراطورة سيسي)). أتمنّى أن أزور المكان الذي عاشت فيه.. وصوّروا فيه الفيلم. 

قال: 

-توقّعت أن تبدئي باكتشاف المعالم الموسيقيّة، إنها السمة الأولى لفيينا. الموسيقى هنا ليست من الكماليات، بل نمط حياة، ستجدينها في كلّ شيء. في جميع الحالات سأطلب من السائق أن يأخذك إذاً لزيارة قصر شونبرون، اعذريني لن أستطيع مرافقتك، عندي مواعيد عمل هذا الصباح. 

أخفت عنه خيبتها. توقّعته جاء لفيينا من أجلها. كانت نجلاء على حقّ، هو يأتي بها حينما يشاء وحيثما يشاء، حسب برنامج ومواعيد عمله، وعليها وحدها أن تضحّي بأعمالها. 

لم تقل شيئاً. لعلّه سيرافقها غداً. ثمّ من الواضح أنه يستخّف بمشروع زيارتها. 

ودّعته واتّجهت صوب الباب تنتظر السائق. حين لمحت الرجل نفسه الذي سلّم عليها في المطار، يهمّ بدخول الفندق برفقة رجل آخر. توجّه نحوها مسلّماً بحفاوة. 

قال: 

-سعيد أن أصادفك مجدّداً، أنا كمال ساري، التقيتك في المطار، أتذكرين؟ انتظرت مهاتفة منك، خفت أن أفقد الاتّصال بك. 

257

البارحة جئت على ذكرك مع صديقي، فكّرنا في مشروع يمكن أن يهمّك. حسن أنّنا صادفناك هنا. 

انتبهت من لهجته كونه جزائرياُ، فقد حدّثها في المطار بالفرنسيّة. عرفّها بصديقه. 

-عزّ الدين. 

مدّ الرجل يده يصافحها بحرارة. قال بالفرنسيّة: 

-سمعت عنك كثيراً. يسعدني أن ألتقيك – واصل بلهجة جزائريّة محبّبة إلى قلبها – يعطيك الصحّة يا الفحلة متاعنا! 

توقّعت كلّ شيء إلّا أن تلتقي جزائريَّيْن في ذلك الفندق! 

تذكّرت نكتة الجزائري الذي تزحلق هو يمشي على الثلج في القطب الشمالي، وإذا بأحدهم يصيح على مقربة منه (( يا ستّار !)) فانتفض الرجل لسماع لهجة جزائريّة وصرخ به ((أنا هارب منكم.. واش هذا حتّى هنا لحقتوني.. حاب اتكسّر واش راحلك فيَّ!)). 

لا تدري كم من الأحاسيس عبرتها في لحظة واحدة. خليط من مشاعر تتجاوز قدرة القلب على فرزها. مزيج من الزهو والحنين والفضول والخوف من انفضاح أمر وجودها في الفندق في ضيافة رجل، وخشيتها أن يكون الآخر يتابع من بعيد حديثها إلى غرباء. 

علمت من كمال أنه موجود هناك ضمن وقد جزائري من الخارجية. ما كان يعنيها هو أين يقيمان؟ 

تنفّست الصعداء عندما عرفت أنّهما حضرا إلى هذا الفندق لموعد خاّص ليس أكثر. قال: 

-للمناسبة، زوجتي تحبّك كثيراً. هل يمكن أن تكلّميها؟ سيسعدها هذا. 

258

كانت مستعدّة لأيّ شيء لإثبات براءتها. طلب رقماً وأمدّها بالهاتف. 

تبادلت مع المرأة كلمات مجاملة، وقبل أن يودعاها، أمدّها الرجل الآخر ببطاقته. قال: 

-هذه أرقام هواتفي، أعمل في الأمم المتّحدة. تجدين هنا كلّ الطرق الموصلة إلىّ أينما كنتُ. ثم أضاف وهو يصافحها مودّعاً: -لن أطلب منك هاتفك، أثق أننا سنلتقي! 

لم تجد ما تقوله. ردّت بجواب ساذج ((إن شاء الله))! لكن وهي تركب السيّارة تمتم قلبها ((الله يستر))! عادت بتوقيت الغداء لتجده ينتظرها في مطعم الفندق. حاولت ألّا تطيل الغداء حتّى لا تلتقي الجزائريين أنفسهم، أو غيرهم من الوفد. 

سألها وهو يقف لاستقبالها: 

-كيف وجدت قصر شونبرون؟ 

أجابت وهي تجلس: 

-باهر، فخمٌ إلى حدّ يأخذك من نفسك. 

قال: 

-تذكّرينني بقول أبي حيّان التوحيدي في وصفه الموسيقى الجميلة يقول ((تسرقك منك وتردّك إليك)). 

ردّت: 

-مع الفرق أنّ قصراً بالغ الفخامة كذاك، يردّك إليك مسخاً مشوّهاً. 

259

توقّف عن الأكل وقال مازحاً: 

-في ساعتين بلغت هذه المرتبة من الفلسفة! 

أزعجها استخفافه بها. ردّت: 

-استنتجت في ساعتين ما تعلّمته في عمر. أنا ابنة الجبال، وأدري أن الفخامة تشوّهنا لأنّها تجعلنا غرباء عن أنفسنا، لذا عاشت الإمبراطورة سيسي شقيّة كطائر في غير أرضه، لا تصادق إلّا نخلة. هل سمعت بـ((نخلة سيسي))؟ 

-لا. 

-عليك أن تراها ما دمت تحبّ الأشجار التي لها قصّة. كان الزوّار يصطفّون أمامها بالعشرات، وهم يتخيّلون الإمبراطورة ذات الجمال الأخّاذ بشعرها الطويل الذي يلامس ساقيها، تجلس تحتها لساعات، لأنّها تذكّرها بطفولتها السعيدة في بلاد أخرى. بعد موت ((سيسي)) مقتولة في عزّ شبابها، نُقلت النخلة إلى بيت زجاجي زراعي داخل القصر، وحظيت بالعناية وفاءً للأمبراطورة. منذ ذلك الحين والناس يطوفون حول تلك النخلة، التي كانت تلوذ ((سيسي)) بها هرباً من زيف الحياة الباذخة حولها. 

قال: 

-لكلًّ نخلة يلوذ بها في هذه الحياة.. 

ثم تذكّر أنّ ثمّة من يحوم حول نخلته. قال: 

-رأيتك تتحدّثين إلى رجلين هذا الصباح.. من هما؟ 

ردّت بتلقائيّة: 

-إنّهما معجبان.. التقيت أحدهما في المطار يوم قدومي. 

أعادته كلمة ((مطار)) إلى ذاكره البعيدة معها. يوم لم تتعرّف إليه.. وقصدت رجالاً لا يختلفون عنهما كثيراً. 

260

-أأعطيتهما رقم هاتفك ؟

ردّت متعجّبة لسؤاله : 

-لا. 

-رأيتك تكتبين شيئاً. 

-كتبت كلمة إهداء لزوجة أحدهما لأنّها طلبت منّي ذلك. 

استفاد من فتح الموضوع ليسألها ببراءة كاذبة: 

-للمناسبة، قلّما تستعملين الهاتف الذي أهديته لك ... فواتيره شبه ثابتة. -أجابت: 

-أستعمله عندما أكون في فرنسا .في الخارج أستعمل هواتف محلّيّه ، أو بطاقات هاتفيّة لأنّ التسعيرة تصبح مضاعفة خارج فرنسا على هذا الخطّ. ردّ: 

-قلت لك لا تشغلي نفسك بهذه التفاصيل. 

-لا أحبّ هذا الهدر ...أيًّا كان من يدفع. 

ساوره الشكّ في كلامها ..ماذا لو كانت تتفادى استعمال هااتفه 

كي لا يّطلع على فواتيرها مفصّله ، فيعرف من تهاتف في غيابه . 

كانت تفكّر في أمر أخر ..تذكرت أنّ عليها أن تتصل ببيروت، لتعرف ماذا حدث بالنسبة للإستديو .قالت : 

-تدري ..كان يجب أن أكون اليوم في بيروت لتسجيل شريطي الجديد. توقّعته سيعتذر لكنّه قال : 

-كلّ هذا لن يوصلك بعيداً. 

261

ردّت مدافعة: 

-لكنّني أتقدّم ... 

-تتقدّمين نحو الرداءة مثل الجميع ..لن أقبل بأن تقدّمي حفلاً قبل سنة من الآن .ولا أكثر من حفل في السنة ..سأعوّض كلّ خساراتك المادّية. 

أريد أن تتفرّغي لدراسة الموسيقى في معهد محترم بدل هدروقتك في إقامة حفلات لا تضيف إلى رصيدك الفني شيئاً.

دهشت لنبرته الصارمة ..تحتاج إلى نجلاء لتستنتج إن كان يغار على أسمها أم يغار من نجاحها ؟ أيخاف حقاً عليها، أم يخاف على نفسه من فقدانها ؟

هي لا تحتكم إلاّ لقلبها، الذي يوافقه دائماً . يرى في غيرته على مستقبلها صرامة الأبّوة التي افتقدتها ، والدليل الأصدق على حبّه لها. غير أن لنجلاء رأياً آخر . 

ما يُحيرّها، أنه لم يمتدح صوتها يوماً، ولا أبدى إعجابه بفنّها . بل في كلّ ما يقوله او يسكت عنه، يكاد يشكّكها في نفسها .أتراه يحجّم النجمة ليتمكّن من الأنثى كما تقول نجلاء ؟ 





الحركة الرابعة 



((لم أنلها مرّة كاملة، كانت تشبه الحياة.)) 

مارسيل بروست 



كما تمنّت عليه، قرّر في اليوم التالي العشاء في الجناح . 

كانت ليلة صيفيّة حالمة. أمر أن تُمدّ الطاولة في الشرفة المطلّة على منظر أخّاذ، حدائق بهندسات جميلة، مُبالَغ في الاعتناء بتصاميمها ،وبتشكيلة ورودها، تتوسّطها نوافير يصل خريرها إلى مسامعهما. 

أرتدتْ ثوباً يليق بجمال الجلسة، وبأناقة بذلته التي كانت توحي أنهما ذاهبان لحفل ما . 

استعادت عافيتها وهي ترى ذلك المنظر المفتوح على شساعه السماء. أخيراً، نجت من سطوة الفخامه المهيبة، وما أيقظت فيها من أسى لا تعرف سبباً. فكّرت أنّ الطبيعة مهما كانت باهرة وخرافيّة، لا تشعرك بالنقص، ولا تلحق بك تشوّهات نفسيّة. أنت لا تصغر وأنت تتأمّل شلّالات نياغرا الشاهقة، برغم ضخامتها ،لأنّك في الأصل كائن مائي، إنك ابن ذاك الشلاّل، ولا تصاب بعقدة نقص وأنت عند سفوح الهملايا، برغم كونها أعلى قمّة في العالم، فأنت ابن تلك الجبال، لأنك من تراب . 

268

ثمّ تثري وتبني لك قصراً، في ضخامة كاتدرائيّة تناطح السماء، وإذا بك تصغر كلّما وقفتَ أمامه. إنّها خدعة الاحجام. لقد خُلقت المساجد والكاتدرائّيات لتقزّم الإنسان، لأنّها بُنيت على قياس عظمة الله لا على قياسك، فهي بيوته. 

لكن الإنسان يواصل بناء الأبراج معتقداً كلما قزّمته، أنه يزداد بطولها عظمة، وأنه يُنسب إليها لا إلى التراب. ويبالغ في تزيين جدران قصوره بالذهب، وإذا بمعدنه يصدأ بينما يلمع كلّ شيء من حوله. من أين له هذا الغرور، والحجارة التي رفع بها أبراجه من خلق الله؟ ليتواضع قليلاً، ما دام عاجزاً عن خلق أصغر زهرة بريّة تنبت عند أقدام قصره. فبمعجزتها، عليه أن يقيس حجمه. 

لم تقل له شيئاً ممّا يجول بذهنها، ربّما اعتقد كما عند الصباح، أنّها تتفلسف، بينما هي تتحدّث عن الشيء الوحيد الذي تعرفه حقاً: الطبيعة. 

كان مشغولاً باختيار زجاجة نبيذ يليق طعمها بمزاج سهرته تلك. رجلٌ به مسٌ من كروم، يحتسي نشوته بأناقة. ذواقةٌ لا يقرب زجاجة نبيذ قبل أن يدقق في سيرتها الذاتية. يبدو وهو ممسكاً بكأسه، جاهزاً لافتراس الحياة بشاعريّة. في الواقع هو يعاني من كآبة من تتعذّر عليه السعادة. كلّما اعتقد أنّه بلغها، سمع وقع خطاه عائدة به إلى حيث كان. حتّى وجود هذه الفتاة التي تمنّاها كثيراً، يعود به إلى مكمن حزنه، الذي لسرٍّ ما، يستيقظ عندما يكون أقرب إلى التجلّي نشوة. 

269


أحدث أقدم