الحركة الأولى
(( الإعجاب هو التوأم الوسيم للحبّ.))
كبيانو أنيق مغلق على موسيقاه، منغلق هو على سرّه.
لن يعترف حتّى لنفسه بأنّه خسرها. سيدّعي أنّها من خسرته، وأنّه من أراد فراقًا قاطعًا كضربة سيف، فهو يفضّل على حضورها العابر غيابًا طويلاً، وعلى المُتع الصغيرة ألمًا كبيراً، وعلى الانقطاع المتكرّر قطيعة حاسمة.
لشدّة رغبته بها، قرّر قتلها كي يستعيد نفسه، وإذا به يموت معها، فسيفُ العشق كسيف الساموراي، من قوانينه اقتسامُ الضربة القاتلة بين السياف والقتيل.
كمل يأكل القطّ صغاره، وتأكل الثورة أبناءها، يأكل الحبّ عشّاقه. يلتهمهم وهم جالسون إلى مائدته العامرة. فما أولَمَ لهم إلّا ليفترسهم. لسنوات، يظلّ العشّاق حائرين في أسباب الفراق. يتساءلون: من ترى دسَّ لهم السمّ في تفّاحة الحبّ، لحظة سعادتهم القصوى؟ لا أحد يشتبه في الحبّ، أو يتوقّع نواياه الإجراميّة. ذلك أنّ الحبّ سلطان فوق الشبهات، لولا أنّه يغار من عشّاقه، لذا يظلّ العشّاق في خطر، كلّما زايدوا على الحبّ حبًّا.
12
كان عليه إذًا، أن يحبّها أقلّ، لكنّه يحلو له أن ينازل الحبّ ويهزمه إغداقاً. هو لا يعرف للحبّ مذهبًا خارج التطرّف، رافعًا سقف قصّته إلى حدود الأساطير. وحينذاك، يضحك الحبّ منه كثيراً، ويُرديه قتيلاً، مضرّجًا بأوهامه.
أخذ غليونه عن الطاولة وأشعله بتكاسل الأسى.
إنّها إحدى المرّات القليلة التي تمنّى فيها لو استطاع البكاء، لكنّ رجلاً باذخ الألم لا يبكي. لفرط غيرته على دموعه، اعتاد الاحتفاظ بها. هكذا، غدا كائنًا بحريًّا، من ملح ومال.
هل يبكي البحر لأنّ سمكة تمرّدت عليه؟ كيف تسنّى لها الهروب وليس خارج البحر من حياة للأسماك؟ قالت له يومًا ((لا أثق برجل لا يبكي )).
اكتفى بابتسامة.
لم يبح لها أنّه لا يثق بأحد. سلطة المال، كما سلطة الحكم، لاتعرف الأمان العاطفيّ. يحتاج صاحبها إلى أن يُفلس ليختبر قلوب من حوله. أن تنقلب عليه الأيّام، ليستقيم حكمه على الناس. لذا لن يعرف يومًا إن كانت قد أحبّته حقًّا لنفسه.
ذلك أنّ الأيّام لم تنقلب عليه، بل زادته مذ افترقا ثراءً كما لو أنّها تعوّضه عن خساراته العاطفيّة بمكاسب مادِّيَّة.
هو يرتاب في كرمها. يرى في إغداقها عليه مزيدًا من الكيد له. أوليست الحياة أنثى، في كلّ ما تعطيك تسلبك ما هو أغلى؟
يبقى الأصعب، أن تعرف ما هو الأغلى بالنسبة إليك، وأن تتوقّع أن تُغيّر الأشياء مع العمر ثمنها.. هبوطاً أو صعودًا.
13
يوم شاهدها أول مرة تتحدث في حوار تلفزيوني، ماتوقع لتلك الفتاة مكانة في حياته، فلا هو سمع باسمه يوما، ولا هي كانت تدري بوجوده. لكنّها عندما أطلّت قبل أيّام، كان واثقاً أنّها لا تتوجّه لسواه، فما كانت أبّهتها إلاّ لتحدّيه.
غادرت حياته كما دخلتها في شاشة تلفزيون. لكأنّ كلّ شيء بينهما حدث سينمائيًّا في عالم افتراضي. وحده الألم غدا واقعاً، يشهد أنّ ما وقع قد حدث حقًّا
عزاؤه أنّها لا تسمع لحزنه صوتاً – وحده البحر يسمع أنين الحيتان في المحطيات – لذا لن تدري أبدًا حجم خساراته بفقدانها. هل أكثر فقراً من ثريّ فاقد الحبّ؟
قال لها يومًا بنبرة مازحة حقيقة أخرى: ((تدرين.. لا أفقر من امرأة لا ذكريات لها)). لم يبدُ أنّها قد استوعبت قوله، أضاف: ((كانت النساء، قبل أن توجد المصارف، يخبّئن ما جمعن على مدى العمر من نقودٍ ومصاغٍ في الوسادة التي ينمن عليها، تحسّبًا لأيام العوز والشيخوخة. لكن أثرى النساء ليست التي تنام متوسّدة ممتلكاتها، بل من تتوسّد ذكرياتها )).
كانت أصغر من أن تعيَ بؤس امرأة تواجه أرذل العمر دون ذكريات جميلة.
كيف لفتاة في السابعة والعشرين من العمر، أن تتصور زمنًا مستقبليًّا يكون فيه جليسها ماضيها..
أوصلته عزلته إلى هذه الاستنتاجات. كثيراً ما يعود إلى وكره. يرتّب ذكرياته، كما لو كان يرتّب ملفّاته. هو اليوم هناك ليعدّ خساراته.
14
لقد أفقره بُعدها. لكنّه ليس نادماً على ما وهبها خلال سنتين من دوار اللحظات الشاهقة، وجنون المواعيد الباهرة. حلّق بها حيث لن تصل قدماها يوماً. ترك لها إلى آخر أيامها وسادة من ريش الذكريات, ماتوسّدتها إلّا طارت أحلامها نحوه. فقد وهبها من كنوز الذكريات، مالم تعشه الأميرات، ولا ملايين النساء اللائي جئن العالم وسيغادرنه من دون أن يختبرن مابقدرة رجل عاشق أن يفعل.
هكذا هو مع كلّ امرأة أحبّها، حيثما حطّ رحاله, استحال على رجل أن يطأ مضاربه. فلتحبّ بعده من شاءت.
مايندم عليه حقاً, ليس ما وهبها، بل ماباح به لها. لم يحدث أن استباحت أعماقه امرأة. كان غموضه إحدى سماته، وصمته جزءاً من أسلحته.
لعلّها كانت التاسعة مساءً حين رآها أوّل مرّة.
كان في مكتبه، قد انتهى يومها من متابعة نشرة الأخبار، منهمكاً في جمع أوراقه استعداداً للسفر صباحاً، حين تناهى إلى سمعه صوتها في برنامج حواري ليس من عادته متابعته.
كانت شظايا جمل تصله من كلامها، ثم راحت لهجتها المختلفة تستوقف انتباهه. لهجة غريبة، منحدرة من أزمنة الفلامنكو، تُوقعك في أشراك إيقاعها.
وجد نفسه في النهاية يجلس لمتابعتها.
راح يشاهد بفضول تلك الفتاة، غير مدرك أنّه فيما يتأمّلها، كان يغادر كرسيّ المشاهد، ويقف على خشبة الحبّ.
لفرط انخطافه بها، ماسمع نبضات قلبه الثلاث التي تسبق رفع الستار عن مسرح الحبّ، معلنة دخول تلك الغريبة إلى حياته.
15
الحبّ لايعلن عن نفسه، لكن تشي به موسيقاه، شيء شبيه بالضربات الأولى في السمفونية الخامسة لبيتهوفن.
سانتيانا الذي قال ((خلق الله العالم كي يؤلّف بيتهوفن سمفونيته التاسعة))، ربما كان يعني أن الله خلق هذا العالم الباهر، كي لانستطيع أمام عظمته إلاّ أن نتحوّل إلى كائنات موسيقيّة، تسبّح بجلاله في تناغم مع الكون.
ما الانبهار إلاّ انخطاف موسيقيّ.
يذكر طلّتها تلك، في جمالها البكر كانت تكمن فتنتها. لم تكن تشبه أحداً في زمن ما عادت النجوم تتكوّن في السماء، بل في عيادات التجميل.
لم تكن نجمة. كانت كائناً ضوئياً، ليست في حاجة إلى التبرّج كي تكون أنثى. يكفي أن تتكلّم.
امرأة تضعك بين خيار أن تكون بستانياً، أو سارق ورود. لا تدري أترعاها كنبتةٍ نادرة، أم تسطو على جمالها قبل أن يسبقك إليه غيرك؟ لقد أيقظت فيه شهوة الاختلاس متنكرة في زيّ بستانيّ.
تتفتّح حيناً، كوردة مائيّة، وقبل أن تمدّ يدك لقطاف سرّها، تُخفي بنصف ضحكة ارتباكها وهي تردّ على سؤال، وتعاود الانغلاق، فيباشر عند ذاك رجالها نوبة حراستهم، وتغدو امرأة في كلّ إغرائها. امرأة لاتهاب الموت، لكنّها تخاف الحياة في أضوائها الكاشفة.
سيعرف لاحقاً أنّها لم تتمرّن على النجاح، ولا تهّيأت له. الثأر وحده كان يعنيها.
يسألها مقدّم البرنامج:
-لم تظهري يوماً إلا بثوبك الأسود..إلى متى سترتدين الحداد؟
16
تُجيب كمن يُبعد شبهة :
- الحداد ليس في مانرتديه بل في مانراه. إنّه يكمن في نظرتها إلى الأشياء. بإمكان عيون قلبنا أن تكون في حداد..ولا أحد يدري بذلك.
-يوم أخذت قرار اعتلاء المنصة لأوّل مرّة، هل توقّعتِ نجاحاً كهذا؟
- هل نعتقد أنّ المرء أمام الموت يفكّر في النجاح؟ كلّ ما يريده هو أن ينجح في البقاء على قيد الحياة. ما أردته هو أن أشارك في الحفل الذي نظّمه بعض المطربين في الذكرى الأولى لاغتيال أبي بأدائهم لأغانيه. قرّرت أن أؤدّي الأغنية الأحبّ إلى قلبه، كي أنازل القتلة بالغناء ليس أكثر..إن واجهتهم بالدموع يكونوا قد قتلوني أنا أيضاً.
-أما خفت أن تشُقّي طريقك إلى الغناء بين الجثث؟
- لقد غيرّ تهديد الأقارب سلّم مخاوفي. إنّ امرأة لاتخشى القتلة، تخاف مجتمعاً يتحكم حماة الشرف في رقابه. ثمّة إرهاب معنوي يفوق جرائم الإرهابيين. تمتم المذيع مأخوذاً بكلامها:
-صحيح .
-تصوّر حين وقفت على الخشبة أوّل مرّة، كان خوفي من أقاربي يفوق خوفي من الإرهابيين أنفسهم. أنا ابنة مدينة عند أقدام الأوراس لا تساهل فيها مع الشرف.
-حسنٌ أن تكوني كسبت الجولة..ما دمت هنا بيننا.
-الجولة؟ الجولة يُنازل فيها طرف طرفاً أخر..ليس أن تكون وحدك على حلبة لتلقّي ضربات يتنافس الجميع على تسديدها إليك.
17
إنّ امرأة واقفة في حلبة ملاكمة، دون أن يحمي ظهرها رجل، ودون أن تضع قفازات الملاكم، أو تحمل في جيبها المنديل الدي يُلقى لإعلان الاستسلام، احتمال الخسارة غير وارد بالنسبة لها، لدا تفتح بشجاعتها شهيّة الرجال على هزيمتها، هذا ما أخاف والدتي وجعلها تصرّ على أن نغادر الجزائر إلى الشام بحكم أنّها سورية.
- أتعتقدين أنّ قصّتك الشخصيّة أسهمت في رواج أغانيك؟
- حتماً استفدت من تعاطف الجمهور، لكنّ العواطف الجميلة وحدها لاتصنع نجاح فنّان..الأمر يحتاج إلى مثابرة وإصرار. النجاح جبهة أخرى للمعركة.
- والحبّ؟
ردّت على استحياء:
- الحبّ ليس ضمن أولويّاتي.
- برغم ذلك كل أغاني ألبومك أغان عاطفيّة؟
ردّت ضاحكة:
- في انتظار الحبيب، أغنّي للحبّ!
- أنت إذاً تتحرّشين بالحب كي يأتي.
- بل أتجاهله كي يجيء!
- لو دعوتك إلى الحلقة التي نعدّها الشهر المقبل بمناسبة عيد العشّاق فهل تقبلين دعوتي؟
- طبعاً، وكيف أرفض للحبّ دعوة؟
- إذاً، لنا موعد بعد شهر من الآن .
***
18
للحظات بعد انتهاء البرنامج، ظلّ جالسًا مكانه مذهولًا.
أيّ لغة تتكلّم هذه الفتاة؟ كيف تسنّى لها الجمع بين الألم والعمق، أن تكون عزلاء وعلى هذا القدر من الكبرياء؟
على الرغم من مرور سنتين على ذلك اللقاء التلفزيوني، ما زال يذكر كلّ كلمة لفظتها، احتفظت ذاكرته بكل تفاصيله. ندم يومذاك لأنّه لم ينتبّه لتسجيله، فقد كان يحتاج إلى أخذ جرعات إضافيّة من صوتها، كمن يأخذ قرصاً من الأسبرين لمعالجة مرض مزمن. اكتشف مرضه للتوّ وهو يتابعها. كانت تنقصه امرأة مثلها كي يتعافى، ويتخلّص من كلّ الأجهزة الاصطناعيّة التي يستعين بها على حياة فقدت مباهجها.
كيف لم ينتبه إلى تسجيل ذلك البرنامج، كي يحفظ بطلّتها في براءتها الأولى، قبل أن تتغيرّ لاحقاً على يده؟ ذلك أنّه كان واثقاً أنّها ستكون له.
تابع فرحتها ومقّدم البرنامج يمدّها بباقات الورود التي وصلتها، ويقرأ عليها بطاقات أصحابها.
كانت مبتهجة كفراشة وسط حقول الزهور، شهّية بفرح طازج، له عطر شجرة برتقال أزهرت في جنائن الخوف. تمنى لو أنّها غنّت كي يرى دموع روحها تنداح غناءً، فقد أصبح له قرابة بكبرياء دمعها. فاجأته رغبة جارفة في رؤيتها، في أن يحظى بلقائها. أحسّ بأنها أهدت له ما كان ينقصه ليحيا: الشغف. أطفأ جهاز التلفزيون، وراح يحشو غليونه شباكاً للإيقاع بها. يريد الإمساك بهذا النجم الهارب.
***
19
في الصباح، حال انتهائه من إجراءات المطار، قصد السوق الحرّة بحثاً في جناح الموسيقى عن شريطٍ لها. لكنه لم يكن يعرف عمّا يبحث بالتحديد، فهو لايعرف اسمها، ولايدري كيف يردّ على البائعة التي عرضت مساعدته.
راح يبحث دون جدوى عن صورتها فوق عشرات الأشرطة. دُهش لهذا الكمّ من المغنّيات اللائي لم يسمع بهنّ يوماً، فهو لايتابع البرامج الفنّيّة، ولا يستمع للأغاني الحديثة، ولا يطالع من المجلاّت إلّا الصحافة السياسيّة أو الاقتصاديّة. لكأنه يعيش في مجرّة أخرى.
أيكون الشريط قد نفد لفرط رواجه؟ أم هي ليست مشهورة كفاية لتتبنّاها إحدى شركات الإنتاج، وتؤمّن لها مكاناً في كبرى نقاط البيع؟
انتهى به الأمر إلى أن اشترى بحكم العادة مجموعة (( شتراوس )) في تسجيلٍ لحفل حديث.
في الطائرة التي كانت تقلّه إلى باريس، راح يتصفّح صُحف الصباح، وبعض المجلّات المتوفّرة على الدرجة الأولى، حين فوجئ بصورتها في صفحة فنّيّة لإحدى المجلات، مُرفقة بمقال بمناسبة صدور ألبومها الجديد.
إذاً، اسمها هالة الوافي. تمتم الاسم ليتعرّف إلى موسيقاه، ثم ترك عينيه تتأمّلانه بعض الوقت. شيء مايؤكّد له أنّه سيكون له مع هذا الاسم قصّة، فهذه المصادفات المتقاربة، تلقّاها كإشارة من القدر. ثم..إنّه يحبّ الأسوار العصيّة لأحرف اسمها.
20
أضاف إلى معلوماته أنّها تزور بيروت ترويجاً لألبومها الأوّل، وأنّها تُقيم في الشام مذ غادرت الجزائر قبل سنة ..وأنّها وُلدت ذات ديسمبر قبل سبع وعشرين سنة.
تأسّف لأنّ عليه أن ينتظر أحد عشر شهراً ليحتفل بعيد ميلادها. كان واثقاً أنّه سيكون ذلك اليوم معها. ذلك أنّه يثق تماماً بكلّ الأفكار المجنونة التي تعبر خيالاته كرؤى. فلسفته، أنّ كلّ ما يمكننا تخيّله قابل للتحقيق. يكفي أن نريده حقًّا، وأن نثابر على حلمنا.
طلب من سائقه الذي جاء ينتظره في المطار أن يوصله مباشرة إلى المكتب، وأن يحتفظ بحقيبته في السيّارة.
قلّما يأخذ معه حقيبة غير تلك الصغيرة التي يسحبها، فله في كلّ بيت خزانة ثياب، ولوازم لإقامة طويلة.
هذه المرّة أخذ معه بذلات جديدة. يحبّ أن يتحرّش بالجمال، أن يرتدي أجمل بذلاته، ولو احتفاءً بزجاجة نبيذ فاخر يحتسيها وحده في بيته. هو دائماً في كل لياقته، لأنه على موعدٍ مع أنثى تدعى الحياة. ومن أجل ألّا تتخلّى عنه هذه الأنثى، قرّر أن يعتني بصحّته.
قبل سنوات، كان يدّخن علبة سجائر في اليوم، ثم أخد قراراً حاسماً عندما بدأ يتجاوز العلبة. قال: (( لن تلمس يدي سيجارة بعد اليوم)). ولم يعد قطّ إلى التدخين. شُفي من إدمانه كما بسحر.
الإرادة هي صفته الأولى. بإمكانه أن يأخد قراراً ضد رغباته، وأن يلتزم به كما لو كان قانوناً صادراً في حقه، لا مجال لمخالفته. ذلك أنّه عنيد وصارم. صفتان دفع ثمنهما باهظاً، لكنّهما كانتا خلف الكثير من مكاسبه، فهو في الأعمال كما في الحياة، لايقبل الخسارة.
21
ما أراد شيئاً إلا ناله، شرط أن يبلغه كبيراً. يأبى أن يسلك أزقة التحايل والنصب الضيقة لتحقيق أحلامه. لكن ليس من السهل دائما أن تكون نزيهاً ومستقيماً في عالم الأعمال، أو أن تغفو أثناء منازلتك أسماك القرش. من غير المسموح للذّي يسبح مع الحيتان الكبيرة أن ينام.. وإلاّ انتهى في جوفها. لذا هو يعود إلى باريس للمرّة الثانية في غضون أسبوعين، لمتابعة عقد يعمل عليه منذ مدّة.
***
غادرت الاستوديو مبتهجة كفراشة. على المقعد المجاور لها سلّة ورد، وبجوار السائق باقتان أخريان. ظلّت طوال الطريق إلى الفندق ممسكة بالسلّة, خوفاً على زينتها.
عبثاً طمأنها السائق أن لا شيء سيحدث للورود. هو لا يدري أن لا أحد أهدى إليها ورداً قبل أن تصبح ((نجمة)). إنها كمن تكتشف على كِبر أنّها لم تمتلك يوماً دُميةً، وأنّهم سرقوا منها طفولتها. كلما قُدّمت لها باقة ورد، شعرت أنّها تثأر لمن قُمعت فيه أنوثتها. كما الليلة، تشعر وهي في عربة الورد هذه، كأنّها عروس، وإن كانت لا تدري لمن تُزفّ. بلى هي تُزفّ للنجاح. غير أنّ النجاح زوج مزاجيّ لا يُعوَّل عليه، يمكن أن يتخلّى عنها، تماماً كما عقد قرانه عليها، لسبب وحده يعرفه. حال وصولها إلى غرفتها، راحت تتفقّد باقات الورود بسعادة. ثم تذّكرت أنّها لا تدري مع من تقتسم فرحتها، وهذه أعلى درجات الوحدة.
22
حزنت لأن لا أحد سيرى هذه الباقات بتنسيقها الجميل. ثمَ هي لاتملك آلة تصوير، والورود ستذبل. أوصلها التفكير إلى العمر الذي يمضي بها، وذلك الشابّ الذي كانت ستتزوّجه وتخلّت قبل سنتين عنه، فأثارت بذلك غضب أهلها، خشية أن تذبل في انتظار خطيب لا يأتي.
لا أحد يُخير وردة بين الذبول على غصنها..أو في مزهريّة. العنوسة قضيّة نسبيّة. بإمكان فتاة أن تتزوّج وتنجب وتبقى رغم ذلك في أعماقها عانساً، وردة تتساقط أوراقها في بيت الزوجيّة.
(( ما الذي ينقصه؟ أيّ عيب وجدت فيه كي تفسخي الخطبة؟ أتعتقدين أن كثيرين سيتسابقون إلى الزواج بمعلّمة أبوها مغنّ؟ الطبيبات والمحاميات ما وجدن رجلاً وأنت فرّطت في شابّ من عائلة كبيرة.. تركته المسكين كالمجنون لا يعرف لمن يشكو..)).
نجحت عمّتها في التأثير حتّى على أمّها، لكن ما فاجأها أنّها لم تجد تفهماً لدى والدها، وهي ابنته الوحيدة العزيزة.
أكان سيفهمها لو قالت له وهو موسيقيّ، إنّ لقادر إيقاعاً خاطئاً. لم يكن سيّئ الصوت، كان سيّئ الإيقاع، وهذا أكثر إزعاجاً. كان نشازاً مع موسيقاها الداخليّة، تلك التي ماكان يملك ((أُذناً)) لسماعها.
سدىً حاولت أن توفّق بين إيقاعيهما. كانا آلتين لا تصلحان لعزف سمفونيّة مشتركة. فكيف إذاً لروحيهما أو جسديهما أن يتناغما؟ كان قادر مزماراً تتعذر دوزنته مع قيثارتها. أثناء انهماكها في ضبط الإيقاع، كان مشغولاً بضبط النفس، منهمكاً في سدّ كلّ ثقوب المزمار بمخاوفه، وتردّده، وخجله .