يوم سقط القناع ( الجزء الـثامن) | رواية عربية


 النهوض الآن لأستحم؟  بينما كان يطهو العشاء استحمت وارتدت بعض الملابس الداخلية المطرزة التي اشتراها لها، واختارت البلوزة الصفراء لترتديها مع الجينز الأبيض.. بدا مظهرها بسيطا انيقا ومتناسبا مع ذوقها أكثر من الثياب التي تعلقها في خزانة الفندق.
دخلت إلى المطبخ لتقف حيث يراها وسألت: " ماذا تطهو؟ ".     - ارز بالفطر.  وتوقف عن تقطيع البقدونس وتراجع اليها.     - تبدين جميلة!   - اتظن ذلك؟
: أجل.. لقد خمنت المقاس جيدا، هل يمكن ان تعطيني البصل؟.  اعطته اياه، وبناء على تعليماته حضرت المائدة. كان المساء قد حل والأنوار في الخارج تغمر الأشجار والمباني، وتنعكس فوق الماء  قال غويدو: " رتبت أمر ان تكون الوجبة كلها خفيفة.
 والطبق التالي هو المعجنات مع الفاصوليا ثم عجة البقدونس.. واخيرا الكريما".     - انت تمزح.   - لا.. اعدك.. سترين.  وراقبته وهو يخلط الطحين والسكر والبيض والحليب وكانت الكريما التي حضرها لذيذة جدا.
 فيما بعد غسل الصحون بينما اخذت هي تجففها وهي تتسأل عن الحرج البادي على وجهه.  وسألت: "ما الأمر؟ ".     - حسن جدا، دولسي.. هل تمانعين.. حين ننتهي من هذا؟ هذا إذا اردت بالطبع..  كررت بشيء من الخوف: "ما
الأمر؟ ".  ها قد آن الأوان سيبدأ بالتحرش الذي سيجعله رخيصا في عينيها وفجأة كانت على استعداد للتخلي عن أي شيء لإبعاده عنها.  لكن الواجب يأتي اولا، على الرغم من ان قلبها كان يضرب بشدة وارتباك.  اخذت نفسا عميقا وتابع كمن
 يخطط لهدف عميق: " في الواقع هناك مباراة هامة في كرة القدم على التليفزيون الليلة. ".     - مباراة كرة قدم؟  واكمل متوسلا: "اتمانعين؟ ".  قالت بذهول: " لا... لا امانع".  وامضيا بقية الأمسية
ن أعلن ان الوقت فد حان لتأوي إلى الفراش لكنه اضطر لقولها مرتين لأنها كانت قد نامت على كتفه.  تركها لتنام حتى وقت متأخر في الصباح التالي وعندما استيقظت كانت بصحة جيدة ارتدت ملابسها ولاحظت بابتهاج انها لم تعد محمرة، فقد خف اللون ليصبح سمرة
 خفيفة بدت رائعة مع شعرها الأشقر وعينيها الخضراوين.  سألت وهي تدخل المطبخ: " من ربح المباراة؟ "     - نسيت.. تبدين رائعة.. كيف تشعرين؟  كانت على وشك ان تقول انها تشعر بالسعادة لكنها اكتفت بالقول: " أفضل مما كنت..
 لكن لم اعد طبيعية كما كنت".  وكان هذا صحيحا، فلن تشعر انها على طبيعتها مجددا.     - إذن سنتصرف براحة اليوم، فطور خفيف ثم مشوار لطيف.  جعلتها هذه العناية المفرطة تشعر بشيء من الذنب لأنها سمحت له بالظن انها اضعف
 مما هي فعلا. لكنها. وذكرت نفسها ان مهمتها هي ان تكتشف حقيقته. وإذا اتضح انه رجل عظيم، محب، وشهم، فستقدم تقريرا بهذه الحقيقة وتكون سعيدة لاجل جيني. قال: " يجب ان اشتري الطعام هذا الصباح. لذا نستطيع الذهاب سيرا".     - اتعني انني اكلت كل ما
 عندك من طعام؟   - بالكاد لمست شيئا.  قالت فجأة: " دعني اطهو شيئا لك اليوم. وجبة طعام انكليزية".     - نظر اليها بحيرة: " وهل تستطيع السيدة النبيلة ان تطهو؟ "   - هذه السيدة النبيلة تقضي
الكثير من الوقت في الطهو، لانها اهم شخص في المنزل، والالطف. منذ زمن بعيد وهي هكذا. المسكينة.  قال ممازحا: " انت تصفين نفسك وكأنك عايشت الثورة وجاءوا لينفذوا الاعدام بحقك".  فكرت قليلا، ثم قالت ممازحة أيضا: " حسن جدا. لو
اخذوني إلى المقصلة، لما ساعدتني مهارتي في الطهو كثيرا. لكنني متأكدة ان "سارة" صورت نساء مسنات يجلسن عند اقدام المقصلة ويحكمن شعار أسرة مادوكس على الكفن. ".  سألت بسرعة، بعد ان اوقع طبقا على الأرض وتبعثر: "ما بالك؟ "
 قال بعجلة وهو ينحني ليلقط القطع: "لاشيء"     - لقد اجفلت. هل قلت شيئا؟   - مجرد احساس انني سمعت هذا من قبل. دعينا نخرج لنأتي بالطعام.  اخذها إلى السوق قرب جسر ريالتو حيث تتوافر منصات بيع الفاكهة والخضار واللحم
 والسمك. لكنه بقي بعيدا عن الانظار وهي تقوم بالشراء، وهذا ما حيرها.  فيما بعد، اخذ الاكياس منها، رافضا ان تحمل ولو واحدا. وسارا يدا بيد.  تطلعت حولها وقالت: " هذا ليس الطريق الذي جئنا منه. على الاقل، لا اظن هذا. لكن الشوارع كلها تبدو متشابهة".
لا. نحن نسير في طريق مختلف. فكرت ان نقوم بجولة في ساحة" سان مارك" فأنت لم تريها بعد.  في ساحة" سان مارك" جلسا في أحد المقاهي العديدة، وراحا يشربان القهوة ويصغيان إلى الموسيقى، بينما شرعت دولسي تفتت الخبز وتطعم الحمام الذي
يجتمع حول الزوار. ثم مالت إلى الخلف، واغمضت عينيها وقد غمرها رضى لم تشعر به من قبل.  اخيرا فتحت عينيها والتفتت اليه مبتسمة. فرأت تعبيرا عفويا على وجهه، يكثف مشاعر دافئة خطفت انفاسها.  استيقظت دولسي من افكارها عندما رأته يقف
 ويجمع الاكياس ويقول شيئا عن المغادرة. وتمكنت من حمل أحد الاكياس على الرغم من احتجاجه. وسارا طويلا إلى ان وصلا إلى زقاق ضيق جدا بحيث اضطرت للسير وراء غويدو، ممسكة بيده.  لم تفارق ذهنها تلك التعابير السعيدة وتلك النظرة الهادئة. وارادت ان تغمض عينيها مجددا لتستعيدها في فكرها.
 سأل وهو ينظر إلى الخلف نحوها: " ما الأمر؟ هل تعبت؟ "     - لا انا بخير.   - لقد ابقيتك في الخارج طويلا.  ولف ذراعه حول كتفيها. وكانت الابتسامة التي اعطاها اياها تشبه سابقتها، مجرد
 وديه، لكن من خلفها رأت شبح نظرة أخرى، ودست ذراعها حول خصره، وتركته يقودها إلى المنزل عبر شوارع ذهبية.
 امرها ان تستريح امام التليفزيون بينما افرغ اكياس الطعام في مطبخه الصغير، واعد لها فنجانا من الشاي. وتذكرت انتقاداته عن القهوة الانكليزية، فودت لو ترد له الكيل كيلين. لكن الشاي كان ممتازا، ولم يكن بوسعها الانتقاد.
امضت بعد الظهر تعمل في المطبخ تحضيرا للعشاء. اما هو فكان يقوم ببعض المهام التي تطلبها منه.  نظرت اليه عدة مرات، متسائلة عما إذا كانت ستلتقط النظرة الدافئة مجددا. لكنه كان قد وضع نفسه تحت السيطرة الآن، ماعدا انها غالبا ما تشعر انه يراقبها أيضا.
 في المساء الباكر، جلسا ليتناولا الطعام. وتقدم إلى الطعام بحذر، وكانما ليقول انه سمع ان الطبخ الانكليزي سيئ، لكنه مسح صحنه وطلب المزيد، إذ كان لذيذا جدا.  بعد العشاء، جلست على الكنبة، بينما راح هو يحضر القهوة. حين عاد كانت
مستلقية، تنظر إلى الاقنعة على الجدار باعجاب.  وضع القهوة على طاولة منخفضة، وقال: "آه. انت تنظرين إلى مجموعتي".     - ما هذه؟   - انها اقنعه مهرجين. تجدين الضاحك والباكي والوجه الايمائي، لكن هناك الكثير
غيرها لأن الاقنعة طالما كانت مهمة جدا في البندقية منذ القرن الثالث عشر. وكان الاستقراطيون يتقنعون إذا ما ارادوا الانغماس في الملذات دون ان يعرفهم أحد.   - كل هذه امور حقيرة.   - ولهذا السبب، منعت الاقنعة في البندقية. فقد كانت تخفي الكثير.   - تتكلم وكأن الاقنعة حكر
على البندقية.  هز كتفيه: "ستجدين بالطبع اقنعة في بلاد أخرى، لكن اهل البندقية حولوها إلى تحف فنية".  سألت باهتمام حقيقي: " لكن لماذا؟ لماذا انتم وليس الآخرون؟ "  أشار إلى المياه تحت النافذة: " نحن لا نعيش على أساس
 صلب. مدينتنا تغوص في الماء، وتنقلت من يد إلى يد عبر القرون حتى اصبحت الحياة بحد ذاتها غير صلبة. نحن نعيش على هوانا. ولقد تعلمنا نوعا من التكييف. وافضل طريقة ليكون المرء متكيفا هو ابقاء مجموعة مختلفة كبيرة من الاقنعة بين يديه".
مختلفة؟   - قناع واحد لا يكفي. فعبر القرون لعبنا ادوارا متعددة. وكان البندقيون اسيادا وخدم، وعرفنا ان هذه كلها ادوار نلعبها، وكل بقناعه المناسب. تعالي وانظري عن كثب.  وعندما اقتربت أكثر، تعجبت لاختلاف التعابير التي يمكن الحصول عليها عن طريق
 قطعه "كرتون" صغيرة.     - هناك الكثير. وهذا لا يصدق.   - تجدين منها بقدر ما تجدين تعابير بشرية.   - اذن. من سيعرف من انتم حقا؟   - كل شخص، عاجلا أم اجلا، سيضع القناع الذي سيكشف الحقيقة.
سألت بسرعة: "لكن أي حقيقة؟ الحقيقة ذاتها تتبدل دائما".     - انت محقة. ولا استطيع سوى القول انه متى كانت اوجه الناس مخبأة، فهم احرار بأن يكونوا صادقين مع انفسهم الحقيقة.  ضغطت عليه، فهذا مهم: "اذن
: فهم يتبدلون أيضا. ويصبحون اشخاصا آخرين".     - بالطبع. الناس يتبدلون طوال الوقت. هل انت الشخص ذاته الذي كنته في السنة الماضية؟ الأسبوع الماضي؟ اليوم الذي سبق قدومك إلى البندقية؟  قالت ببطء: "لا. ابدا"
 انزل قناعا طويل الانف، ووضعه امام وجهه: " هذا قناع بانتالون" التاجر الجشع".  ثم ابدله بأخر انفه قصير، لكنه بشع: " هذا بونسيتلا السفاح".  وانتزع قناعا آخر عن الجدار ووضعه على وجهه بحيث اطلت عينا من الثقوب. وكان
 مثل وجهه تماما.     - هذا هو المهرج واسمه" هارلوكان" وهذه الكلمة تعني " الشيطان الصغير" انه ذكي ومخترع، ولكنه ليس ذكيا كما يظن، ونقوده أخطاؤه، دائما إلى حافة الكارثة. ويرتدي ثوبا متعدد الألوان لأن اصدقاءه يعطوه ثيابهم القديمة ليخيطها لنفسه.
 ضحكت: " ياللمسكين. وهل انت مثله؟ "  سأل بسرعة: " مالذي جعلك تقولين هذا؟ "     - لأنك قلت الكثير عنه، أكثر من غيره.   - هذا صحيح. أجل، اعتقد انني هكذا، ولم اكن اعرف. لكن هذه وجهة نظري، رجل
يمكن ان يكون اليوم المهرج"هارلوكان" وفي الغد التاجر الجشع "بانتالون"   - انت. تاجر جشع؟  وراى نظراتها المحتارة، فسارع لتغيير الموضوع: " على أي حال. من الجيد رؤيتك تضحكين، فانت لا تضحكين بما يكفي".
 لكنني اضحك كثيرا معك.   - لكن ليس في اوقات أخرى. واتساءل لماذا؟   - انت لا تعرف كيف اكون في اوقات أخرى.   - اعتقد انني اعرف. شيء ما يقول لي انك شخص جدي أكثر من اللازم.  لمس ذراعها بخفة: " لقد تركت نفسك تحترقين لانك غير معتادة على قضاء وقت
 في الشمس. واظن انك لا تخرجين وتتنزهين كثيرا"  كانت على وشك ان تنفي قوله، لكن ما قاله كان صحيحا. فبدا الارتباك على وجهها.  فسأل: " لماذا؟ اهو بسبب الرجل الذي حطم قلبك؟ "  قالت ببطء: "لا. ليس الأمر هكذا".
 وطاف تفكيرها في بحر من الذكريات. كم كان عمرها حين احست ان وضع عائلتها حرج؟ متى بدأت بالقيام بالحسابات لوالدها؟ فهو لم يكن يوما يعرف كيف يحسب.  كانت في الخامسة عشر حين صرخت: " ابي. لا يمكنك تحمل هذا. انت واقع في
 ديون كبيرة".     - اذن المزيد لن يؤذي، اليس كذلك؟ تعالي يا حلوتي، لا تغضبي.  كان والدها فاتنا. لكنه اناني، علمها معنى الخوف دون ان يعرف. وعملت في المدسة جاهدة، تعد نفسها بمستقبل عملي لامع. لكن هذا لم
 يحدث، لأن والدها اقام مدة طويلة خارج البلاد.وحين عاد بعد سنة، كانت فرصتها قد ضاعت. هكذا وجدت عملا تستطيع فيه ان تعيش بجهودها، فهذا في النهاية كل ما تملك.  ركز عينيه على وجهها، وقال متوسلا: " اخبريني".  قالت بسرعة: " لا. انت على
حق. لقد كنت جدية كثيرا".  لكنها تكتمت عن قصة الفقر.     - ربما حان الوقت لتضعي قناعا آخر، ربما قناع "كولومبين". انها شخصية متعقلة، لكنها، كذلك حادة وشجاعة، وتستطيع رؤية الجانب المضحك من الحياة.   - اين هي؟
 كان القناع الذي انزله فضي اللون ومزخرفا بما يشبه النقود الذهبية والريش الصغير الملون، ووضعه بلطف على وجهها وربط الشريط الحريري من الخلف.  سألت وهي تنظر إلى نفسها في المرآة: "ما رأيك؟ "  وكان كل وجهها تقريبا مغطى ولا يظهر سوى فمها.
: ولدهشتها هز رأسه: "لا. لا اعتقد هذا".     - لماذا؟ لقد اعجبني. هل اجرب قناعا آخر؟   - لا. لا اعتقد ان الاقنعة تناسبك، ليس انت. ليس هذا القناع، انها فاتنة. لكنها مخادعة كذلك. وانت لا يمكن ان تكوني هكذا. انظري إلى زينة النقود، كيف تلمع
رت اليه، متسائلة عما إذا كانت ستفهمه. واحست بالقلق.  ورن جرس الهاتف.  لزمها لحظة لتدرك انه هاتفها النقال، يرن من حقيبة يدها التي على الأرض. لقد كانت اضعف من ان تفكر بإخفائه.
 وسارعت نحوه مذعورة.  جاء صوت روسكو خشنا: "لماذا لم تتصلي بي؟ "  قالت بصوت منخفض مستعجل: " كان الأمر صعبا في الأيام القليلة الماضية. ولا استطيع الكلام الآن".     - ولم لا؟ هل انت معه؟   - أجل.
تقدم عظيم اذن؟   - أجل. عظيم. رائع، سأتصل بك لاحقا. وداعا.  وانهت المكالمة. اطفأت الجهاز، وكان قلبها يخفق بشدة. فقد كان روسكو متطفلا رهيبا من العالم الخارجي، متطفل كانت مستعدة للتخلي عن أي شيء لتتجنبه. لكن الوقت قد فات الآن.
 سأل: " هل كل شيء على ما يرام".  لكن لم يكن هناك شيء على ما يرام.  وادركت انها لا تزال تضع القناع، فانتزعته بسرعة.  قال متوسلا في الصباح التالي: " ايجب حقا ان تذهبي بهذه السرعة؟ ابقي



أحدث أقدم