الاسود يليق بك (الجزء الثامن والاخير) | رواية عربية




حدث قبله أن أبكاها رجل، لكن وحده كان وحده كان بالبهجة يُهّيئها لكلّ تلك الدموع. 

رجلٌ أشعل من أجلها كلّ المفرقعات، وأطلق كلّ الأسهم الناريّة، ثم أطفأ الأنوار في عزّ مباهجها الضوئيّة، وحوّل نهارها ليلاً، بعد أن كان ليلها به نهاراً. لأشهرٍ، فقدت مباهجها وحماستها لإنجاز ألبومها الجديد، متذرّعةً بالظروف السياسيّة. الحقيقة، لا شيء سواه كان يعنيها. كانت تكرهه بقدر ما تحبّه، وتتمرّد عليه وتتمنّاه، وتحنّ إليه سرّاً، وعلناً تتحدّاه. وتصمد أياماً، ثمّ تنهار أحياناً باكية. أمام سؤال لا تملك يه جواباً: (( كيف حدث كلّ هذا؟)).

تتذكّر أنّه قال لها مرّة، وهما يتنزّهان في غابة بولونيا بعد قطيعة : (( الفراق من المواد العضويّة التي تتغذّى بها شجرة الحبّ )). 

أكان عليها أن تستنتج أنّ رجلاً يصادق الأشجار هو جاهز لأن يتخلّى عن امرأة، لتنمو في غيابها تلك الشجرة؟ أيكون أبكاها ليسقي بدموعها شجرة الحبّ؟

بعد أشهر من البكاء، اكتشفت أنها وحدها كانت تسقي بدموعها الغبيّة تلك الشجرة. وأنّها خسرت غابة على أمل إنقاذ شجرة .. شجرة ربّما لم تنبت إلاّ في قلبها. 
311

في تلك السهرة التي خرج فيها الجنّي من عنق الزجاجة، قال لها (( احزني قليلاً كي نتساوى في العمر )). ها قد غدت في غيابه أكبر منه سناًّ. لقد جعلها في أشهر تبلغ سنّ الفاجعة. بينما تتوقّع أن يكون عاد إلى شبابه مع سواها. 

وقال، وموسيقى تنبعث إلى شرفته، من الحدائق الأرستقراطية المزاج: (( حتّى أثناء قطيعتنا لم أتوقف عن مراقصتك )). مدّ يده نحوها وواصل: (( تعالي، ثمّة أشياء من السعادة أو من الحزن بحيث لا أعرف كيف أقولها لك إلّا رقصاً )). ثمّ انتهت الرقصة من دون أن تعرف في أيّ الحالتين كان، فالأضداد لديه تتلامس. يقول تعريف للموسيقى إنّها (( ملجأ النفوس المريضة بالسعادة )) فهل كان سعيداً أم مريضاً ؟ مايؤلمها أنها، في الماضي كما اليوم ، لا تعرف شيئاً عن نشرته النفسية. هل تألّم ؟ هل بكى ؟ هل ارتدى حدادها أم وضع قناعه ؟ هل شُفي منها أم مازال مريضاً بها ؟ أم عثر على من يمكن أن يبدأ معها جولة شطرنج أو يواصل أخرى كانت تنتظره في بلاد ما ؟

*** 

ثمّة نساء يلامسن لواعج الروح، يعبرن حياتك كجملة موسيقيّة جميلة ، يظلّ القلب يدندنها لسنوات بعد فراقهن. وأخريات بدون قفلة، لا تدري وهنّ يغادرن، هل كان من تتمّة لتلك السوناتا. وهناك من لا تملك منهن إلاّ ومضة ذكرى، كنقرة وحيدة على مفتاح البيانو يتركنك معلّقاً لنظرة. وهناك نساء نشاز، لا تستطيع دوزنتهن، لا يفارقنك إلا وقد أفسدن تناغم الكائنات من حولك. 
312

ثمّ .. ثمّة امرأة ، بسيطة كناي، قريبة ككمنجة، أنيقة في سوادها كبيانو، حميميّة كعود. هي كلّ الآلات الموسيقيّة في امرأة. إنها أوركسترا فيلارمونية للرغبة، وبرغم ذلك لن يتسنىّ لك العزف على أيّ آلة فيها. تلك هي لحنك المستحيل. 

هذا ما أدركه متأخراً، وهو يحاول أن يقنع نفسه بأنّ أجمل قصص الحب هي تلك المعلّقة، وأجمل المتع تلك الناقصة، وأنّ الحياة اختارت له معها أجمل النهايات. أتكون قصّتهما انتهت هنا ؟

عندما يفترق اثنان لا يكون آخر شجار بينهما هو سبب الفراق، الحقيقة يكتشفانها لاحقاً بين الحطام، فالزلزال لا يدمّر إلّا القلوب المتصدّعة الجدران والآيلة للانهيار. 

راح يبحث بين الشقوق عن سببٍ للنهاية. لعلّه الضوء. فالحقيقة في عُريها الكاشف لا تليق بولع العشّاق، لكنّ الحبّ هو بوحٌ مستمر، تورّطُ في تفاصيل الآخر، وشهوةُ لتملّكه، يجعل منك رجل تحرّ، ومخبراً في آن واحد! فعندما تعرف كلّ شيء عن الآخر ، ويعرف عنك أكثر مما كان يجب أن يعرف، لا بدّ أن تفترقا. الحبّ وهمُ، لا يصمد أمام الأضواء الكاشفة. لقد عرفت هذه الفتاة سرّه الأبعد عمقاً، وهو لا يستطيع أن ينسى أنها استمتعت وهي تراه للحظات عارياً من هالته. 

أيقظت فيه قسوة لا عهد له بها. لعلّها أمراض الرجولة. في لحظة ضعف يكشف رجل لامرأة سرّه، ثم يشرع لاحقاً في تأنيبها لينسيها ما باح به، يتمادى في إذلالها ليشكّكها في ماسمعته، في صدّها، في هجرها، لتبحث عن الأسباب خارج السّبب الحقيقي. لا يغفر الرجل لامرأة رأته في لحظة ضعفه.
313

كان يكفي أن تبكي ليطمئنّ أنّ كرامته مصونة. أن تعتذر، أن تتضرّع، لتتأكّد له سطوته عليها. ما لا يغفره لها حقاً ، أنها غادرت حياته دون أن يرى لها دمعة. من تكون هذه التي لا تبكي ولا تعتذر؟! صفتان حكرٌ عليه وحده، هو الذي أبكى الرجال وهو يرفعهم إلى قامته، ثمّ يتركهم يسقطون من ذلك العلوّ الشاهق، كي يذكّرهم بسلطة المسافة. عليها أن تتذكّر بعد الآن أنّ المسافة بينه وبينها ليست بين صفَّيْن في طائرة، بل بين الطائرة ..والأرض. 

في الواقع، هو خاسر سيّئ، يحجم عن دخول معركة لا يضمن كسبها. هو لم يشعر يوماً معها بالامان، لأنّه لم يمتلكها حقاً، شيء منها ظلّ يفلت من قبضته، لذا يفضّل أن يخسرها بملء إرادته، قبل أن تكون من يُخبره بخسارته. كثيراً ما قالت له مازحةً إنه يعمل عاشقاً أحياناً، وطاغية بدوام كامل. فليكن، لقد تركها أرضاً محروقة، من يأخذها منه فسيأخذها أنثى بلا قلب، استناداً إلى قول أحدهم (( من أراد العراق فسيأخذه أرضاً بلا شعب )). إنّها، بعده، بلاد خراب ، لا أحد يجازف بحكمها، وأيّاً كان من سيليه، فستعيش مسكونة بالحنين إلى جلّادها، فقد كان هو عصرها الذهبي، دون منازع. 

*** 
314

لربّما كانت تحتاج إلى مسافة لتراه. ذات يوم، تجلّى لها بوضوح حيث لم تتوقّع. 

عثرت على حقيقته، يوم لبّت مع والدتها دعوة فراس إلى حضور سهرة رمضانيّة، تقدّمها فرقة المولويّة الصوفيّة. راحت تتابع تلك الابتهالات، مأخوذة بدوران الدراويش على أذكار فرقة تضمّ عدداً من المنشدين، وضاربي الدّف وعازفي الناي. 

في رقصتهم، تتجلّى محنة المتصوّف الذي، كما الناي، اقتلع نفسه ممّا هو دنيويّ، وأفرغ جسده ممّا هو مادّى، عبر التقشّف والزهد اللذين يرمز إليهما حزامه العريض، كي يخفّف من حمولة الدنيا ويعدّ نفسه للتحليق عالياً، كما يفعل النغم، منجذباً في دورانه نحو الله. 

ذلك الرجل أيضاً كان يدور، لكن عن غرور، مُثقَلاً بمكاسبه ، ثملاً بمباهجه، صانعاً من الثراء حزاماً يباهي به. لذا، كلّما حاول التحليق خانه جناحاه. 

في رقصة المتصوّفة، يُمنع أن تلامس يدا الراقص ثوبه، هو يضمّهما فارغتين إلى صدره. وفي رقصة الجبابرة، يغدو الجسد أذرع ((مروحيّة)) تحاول عن جشع الإمساك بكل شيء. فالجبّار يرقص رقصة البهلوان ليلفت النظر إليه، مأخوذاً بنفسه، منتشياً بسلطته. لذا يُحطمّ في دورانه كلّ ما يصادفه، ويعجب أن ينتهي به الأمر دوماً راقصاً وسط الحطام.
315

أثناء رقصه زهواً، حاول تحطيمها. ما كان يدري أنها ابنة الناي والدّفوف، تملك خفّة الكائنات التي تولد زاهدة، وتُبعث كل مرة من هشاشتها. ما كانا من العائلة الفيلارمونية نفسها. يريدها بيانو و هي لا تستطيع أن تكون إلّا مزماراً ودفَّا. ألهذا افترقا؟

لا يملك الدفّ إلّا جلده، يُعرّض للنار ليقوى صوته. وكذلك الناي، يُنتزع من القصب المحيط بالمياه، لذا أبواه الماء والتربة. ثم تعمّده النار، يحتاج إلى أن يفرغ ليعبره الهواء عبر التجاويف . فلا لحن ينطلق من قصبٍ ممتلىء بنفسه. 

مثلهما هي، تحمل في كينونتها العناصر الأربعة للطبيعة. هي التراب والماء، والنار والهواء، فكيف غرّه منها بساطتها ، واعتقد أنه يسهل الانتصار عليها؟

أبكتها رقصة المتصوّفة في الدوران المتسارع الأخير لمؤدّيها. لكأنّها تقمّصت أرواح أولاد سيدي سليمان الذين كانوا، في طقوس احتفائيّة، يؤدون رقصات صوفيّة حدّ انخراطهم في نوبة بكاء رهيبة، ودخولهم في حالة انخطاف روحيّ يجعل من يراهم يعجب ألا يكونوا ارتفعوا عن سطح الأرض عدّة سنتمترات. فما كانوا يقفون على أقدامهم، بل يحلّقون. 

كانوا يفرطون في الوجع حتّى يغدو الوجع انتشاءً، ويستمتعون برقصهم حدّ البكاء. ووحده الله في عليائه كان يدري ماذا كانت تقول له، في رقصها، تلك الأقدام المنتحبة. 



(( الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة غلطة . )) 

نيتشه 





ذات صباح، رنّ الهاتف. قال صوت رجالي: 

- واشك يا لالّا .. ما تسأليش علينا؟

إنها الجزائر تسأل (( كيف أنت مولاتي؟ ألا سألت عنّا ؟ )) .

لم تتعرّف إلى الصوت، لكنّها تعرف تلك اللهجة الغالية على القلب، ففي الجزائر يحدث أن تُنادى الحرائر ((لالّا ))، عن حنينٍ لزمن جميل ولّى. ردّت: 

- أهلاً. 

قال الرجل على الطرف الآخر: 

- أنا عزّ الدين .. هل تذكّرتني؟

كان يتحدث إليها من رقم سوري. قالت تحت وقع المفاجأة: 

- طبعاً أذكرك .. لكن ما توقّعت وجودك في سوريا، طمّني عنك. 

- -إني هنا في مهّمة، قلت أسلّم عليك، عساك بخير. 

- بخير .. شكراً. واصلت مازحةً: بخير ما دمتُ لا أتابع الأخبار.
320

- أنت محظوظة .. أنا لا أتابع الأخبار .. بل أتبعها ! 

- وأين ألقت بك الحروب ؟

- مازلتُ بين جنيف والعراق. تعبت .. إنّها حرب بسبع أرواح. 

- أغبطك .. لا تتذمّر .. في العمل الإنساني. على الأقل لا تُكافَأ بالجحود، لأنك لا تعمل لإنسان بل للإنسانية. 

- صدقتِ والله. مآسي الناس تُنسيك قدرتهم على الأذى، على كل حال أتمنّى أن أراك، لديّ الكثير مما أقوله لك، ثمّة مشروع كنت أودّ أن أحدّثك عنه منذ فيينا. هل هناك مجال لنلتقي؟

- إلى متى أنت هنا ؟

- لأربعة أيام على الأكثر. 

- نلتقي غداً إذاً. 

كان في هاتفه إشارة من القدر. هي تثق بالإشارات. لعلّ الله تقبّل دعواتها. لا تدري ما هو المشروع لكنها تريده. تحتاج إلى طوق نجاة كي تنجو بنفسها من جزيرة الأحزان التي تقيم فيها منذ أشهر. 

ذهبت إليه في الغد دون زينة، عدا كحل رسمت به عينيها. لا رغبة لها في أن تقوم بجهد أكبر، كي تبدو أجمل من أيامها الشاحبة. طمأنها أن وجدته بدوره بلحية عمرها يوم أو يومان، من دون أن يفقد شيئاً من هيبة حضوره. 

قال بالفرنسية ممازحًا: 

- أما قلت لك إننا سنلتقي ؟

ردّت: 

- لن تقنعني أنّ المصادفة رتّبت لنا موعداً ثالثاً ! 

- أنت تسيئين الظنّ بالقدر. 
321

- لنقل إنّني لا أصدّق المصادفات المُتقنة. 

- لا تدقّقي في هدايا الحياة. حضرت لأتابع موضوع اللاجئين العراقيين. ما كان يمكن أن أكون هنا لولا أن سورية تستقبل مليون ونصف مليون لاجئ عراقي. المصادفة هي وجودك .. أي ريحٍ طيّبة أتت بك إلى هنا ؟

ما كان لها من رغبة في أن تقصّ عليه قصّتها مذ ذلك الزمن البعيد. هي جاءت لتنسى لا لتتذكّر. 

ردّت ممازحة: 

- هي تلك الرّيح ذاتها التي أتت بك حتّى نلتقي. قال: 

- أمّا وقد جئتُ، فأودّ أن أعرف لماذا تركت الجزائر. علمت أنّك عشت مأساة. يعنيني أن أعرف منك القصة. 

أكبرت فيه أنّه لم يتوقّف عند ما أوحت له به من اشتياق. لعلّه يدري أنها ليست صادقة في شوقها إليه، وإلّا كانت اتّصلت به قبل خمسة أشهر. هو يريد أن يقاسمها ألمها لا كذب مجاملاتها. 

ماكان من مفرّ. راحت تروي له قصتها منذ البداية. قصّتها ، من دون تلك القصّة. 

قال معلّقاً بأسى: 

- كنّا نريد وطناً نموت من أجله ، وصار لنا وطن نموت على يده. واصل بعد شيء من الصمت مواسياً: 

- لا خيار لك إلّا التفوّق، إنّ المآسي الكبيرة هي التي تجعلنا كباراً. أرى في المشروع الذّي أعرضه عليك فرصة لبداية شهرة عالمية. نُعدّ لحفل كبير يقيمه نجوم عالميّون، وأريد أن تشاركي فيه، سيعود ريعه لدعم اللاجئين العراقيّين، فنحن على أبواب الشتاء وعشرات الآلاف يعيشون في المخيّمات. سيكون الحفل في ميونيخ وينقل مباشرةً من خلال عدّة فضائيات أجنبية. 
322

كان أجمل خبر سمعَته منذ سنوات. إنه خبر نجاتها. ردّت بشهقة الفرحة: 

- يا الله .. شكراً لأنك فكّرت بي . أنت باب سعدي. 

ردّ: 

- بل بوّابة حظك .. الأبواب الصغيرة لا تليق بك. 

(( يا له من رجل ! )). لكن قلبها عاود التفكير في الرجل الآخر. 

خشيت ألا يسمع أبداً بهذا الحفل وألّا يراه. مايعنيها قبل كلّ شيء، هو أن يراها تغنّي في حفل عالمي. هي لن تُشفى مادامت لم تثأر منع بالنجاح. سألته متعجّبة: 

- لماذا ميونيخ ؟

أجاب: 

- لأنّ جالية عراقية كبيرة تعيش في ألمانيا. كان الله في عون العراقيّين، كم دفعوا ثمن وجودهم، لمصادفة جغرافية، على أغنى أرض عربيّة، لحظة حدوث أكبر عمليّة سطو تاريخيّة قام بها بلد لنهب بلد آخر. تصوّري ، منذ أشهر ونحن نعمل على الإعداد لحفل سنجمع فيه مليون دولار حدّاً أقصى، إنّها أقلّ من زكاة أصغر لصّ أنجبه العراق الجديد. لننجو من طاغية، نستنجد دوماً بمحتلّ، فيستنجد بدوره بقطّاع طرق التاريخ ويسلّم إليهم الوطن. 
323

كان مهموماً بالعراق، بإمكانه أن يحكي لساعات عن بلد المليون نخلة، الذي غدا بلد المليون قتيل، لكنها كانت أكثر سعادة من أن تصغي لما يقوله، إنّها فرصتها لتعود إلى الأضواء من علوّ شاهق. تريد أن يراها ذلك الرجل وهي واقفة على تلك القمّة مع الكبار. أن تطلّ عليه من جبلها، لا من المطار الذي تركها فيه. الفنّ كما الإبداع ، هو في نواته الأولى بذرة انتقام. 

سألته بلهفة: 

- متى يكون لحفل؟

- في 5 ديسمبر . أمامك شهر للاستعداد. اختاري أغاني جميلة لأنك تتوجّهين لجمهور لا يعرفك. 

- لا أخفي عنك أنّ حفلاً كهذا يخيفني. 

- لا تهتمّي. قد تصعدين على المسرح نكرة، لكن حين تنزلين منه لن ينسى أحد اسمك. أريدك أفضلهم. تذكّري أنّك كما ترين نفسك تكونين. 

افترقا على أن يتهاتفا ليحدّدا موعداً آخر يزوّدها فيه التفاصيل. 

أحبّت رجولته الشامخة في تواضعها الجميل، وغيرته على اسمها. إحساس بالأمان تسرّب إلى قلبها. حمدت الله لوضعه هذا الرجل في طريقها، فما عاد بإمكانها التجذيف وحدها. 

لكن ما أحبّته حقاً هو تاريخ 5 ديسمبر . كانت تحتاج إلى تاريخ لتوثيق انقلابها ، لا شيء بعده يعود كما كان. يومذاك، لن تقلب صفحة حياتها .. ستمزّقها بشهادة الكاميرات. 
324

عندما التقته بعد يومين، كانت تبدو أجمل وأكثر بهجة. لأشهرٍ، ما كانت لها مشاريع .. بل ذكريات. كانت الحياة بالنسبة إليها لا تُصرَّف إلّا في الماضي. اكتشفت أن السعادة هي أن تملك مشروعاً. أما العافية، فهي أن تضحك من القلب .. أخيراً. 

بعد مغادرته، واصل عزّ الدين مهاتفتها ليطمئنّ على سير استعداداتها. يحرّضها حيناً على العمل، وأحياناً يحلو له مفاجأتها، يطلبها أثناء أسفاره من أرقام لا تعرفها. وعندما تسأل ((من؟))، يجيب (( الحاج)) فتزداد حيرة لكون نصف الشعب الجزائري حجّاجاً. 

تسأل (( أيّ حاج ؟ ))، يردّ (( في الواقع أنا ما زلت ما حجّيتش. ما عملت غير (( عمرة )). ما تنادينيش يا حاج، ناديني يا عمري )). 

كانت نكتة جزائرية عن مدير أزعجه أن تناديه سكرتيرته (( يا حاج )) فاخترع لها فتوى كي تناديه (( ياعمري)). ضحكت للنّكتة كما لم تضحك منذ أيّام الجزائر. 

ساعد مزاجها المبتهج في هجومها على العمل بحماسة، بما أودعها عزّ الدين من نزعة لرفع التحدّي. 

- ليس مسموحاً أن تقدّمي إلّا عملاً عظيماً. أنت في هذا الحفل لا تمثّلين نفسك بل الجزائر. 

أرعبها أن تغنّي مع الكبار. هي سهرة واحدة، لا تملك منها إلّا نصف ساعة لتلعب مستقبلها على طاولة القدر. لفرط خوفها تحرّرت من الخوف. قرّرت أن تربح الرهان. نبت لها ريش حيث ما توقّعت أن يكون لها جناحان. 

*** 
325

على هذا العلوّ، في طائرةٍ تحمل اسمه، هو يملك قطعة من السماء. من حيث هو، تبدو له تلك الفتاة في الأسفل كالعصافير التي تقف مَثنى وثلاثَ على حبال الكهرباء. هي واحدة من الحشد الذي لا يُرى. لا جناحان لها لتطاله، فكيف لطائر نبيل يفرد جناحيه على القارّات، أن يعاشر عصفورة ؟!

غير أن فكرة أسراب العصافير المتأهّبة للطيران، راحت تتداعى في خيالاته لتوقظ هواجسه. ذكّرته بمخاطر الحمام والعصافير على الملاحة الجويّة، وكلّ الجهود التي تقوم بها المطارات لإبعاد الطيور عن المدارج، لأنها تحبّ الاختباء في محرّكات الطائرات الجاثمة، فتتسبّب لاحقاً في سقوطها. يحدث أيضاً أن ترتطم بالزجاج الأمامي للطائرة، وتحجب الرؤية عن قائد الطائرة، فترغمه على العودة إلى مطار إقلاعه. 

لفرط إلمامه بما قد تتسبّب به الطيور من كوارث، أصبح يعاني من رهاب ذلك العدوّ الصغير غير المرئيّ. ما من مرّة، لحظة تأهّب طائرته للإقلاع، إلّا خطرت بذهنه تلك الطيور، حتّى سكنه في لا وعيه الخوف من تلك الكائنات الصغيرة. 

كيف أن طيوراً صادقها في الأرض، غدت عدوّته يوم بلغ السماء؟ أكلّما صعدنا ازددنا خوفاّ؟ أم وجودنا في الأعالي يجعلنا نتوجّس الشّر حتّى من أصغر الكائنات؟ أم ترانا نكون الأكثر هشاشة، عند بلوغنا قوّتنا الأقصى، ما دام بإمكان طائر صغير أن يُسقط طائراً تكنولوجياً في ضخامة طائرة؟ 
326

أكان عليه إذاً أن يحذر تلك الفتاة التي كانت عصفورة تنقر الحَبّ في كفّه، وحين خرجت من حياته، اختبأت في (( محرّك قلبه )). وتلافيف ذاكرته، وبإمكانها الآن وقد غدت خارج مجال رؤيته، أن تكيد له، وتقف في حفل عالمي لتغنّي، متحدّية سطوته، ومهدّدة صرح كرامته؟ 

بطلّتها في ذلك اللون الزاهي، ألحقت بقلبه عطباً غير مرئيّ، وضرراً عاطفيًّا أصابه في الصميم. 

كان يعتقد أنّه يمتلك ثقافة البهجة، بينما تملك هي ثقافة الحزن، ولا أمل في انصهار النار بالماء. فكيف انقلبت الأدوار، وإذا بها هي من تشتعل فرحاً،بينما شيء منه ينطفئ، وهو يتفرّج عليها تغنّي؟ ربما كان يفضّل لو خانته مع رجل، على أن تخونه مع النجاح. النجاح يجمّلها، يرفعها، بينما ظنّ أنه حين ألقى بها إلى البحر مربوطة إلى صخرة لامبالاته، ستغرق لا محالة. من فكّ رباطها؟ بمن استنجدت لتقطع المسافة بين القاع والسطح؟ 

برغم ذلك، تابع من بيته حفلها إلى الآخر، محتفظاً لقلبه بباقة التوليب التي اعتاد أن يرسلها إليها. 

تماماً كما يوم رآها أوّل مرّة، هو جالس ذات مساء يتفرّج عليها عبر شاشة تلفازه. لقد عادت عصيّة وقصيّة كما كانت. 

هو ذا .. رجل برازيلي المزاج، أنفق عمراً في ابتكار الأقنعة. الحبّ بالنسبة إليه كرنفال ومدارس تنكّريّة للبهجة. إنّه المهرّج الذي يخلو بنفسه ليحزن، والساحر الذي يعود خاسراً بعد كلّ استعراض. 
327

ثمّة حزن يعرفه، وآخر يتعرّف إليه الليلة. حزن ما خبر من قبل صدمته. حسب الإتيكيت، عليه أن يرسل سلّة توليب لأحزان دخلت حياته للتوّ. أو ليست الأحزان أنثى تختبره بغواية الألم؟

عِمتِ مساءً مولاتي الأحزان. هل تسمحين لي أن أهدي لك باقات توليب لم أقطفها. فأنا ما عدتُ البستانيّ الذي كان. 

*** أراد أن يعطيها درساً في الغناء، ستلقّنه درساً في الاستغناء. 

ماذا يعرف عنها هي سليلة (( الكاهنة ))؟ امرأة لم تخسر حرباً واحدة على مدى نصف قرن. كلّما تكالب عليها الأعداء، وتناوب الخصوم على مضاربها، خسروا رهان رجولتهم في تركيع أنوثتها. من حيث جاءت، تولد النساء جبالاً. أمّا الرجال، فيولدون مجرّد رجال. 

كالجنود العائدين من المعركة، واضعين وروداً في فوّهات البنادق، عادت. لا أحد يتوقّع أمام طلّتها كم عانت، وفي أيّ الخنادق، لا الفنادق، أقامت. ولا كم من الهجمات صدّت. 

عزلاء انتصرت، بتلك الهشاشة التي ضنعت أسطورة شجاعتها. لقد أكسبها الظلم حَصانة الإيمان. مذ أدركت أنّ طغاة الحبّ كطغاة الشعوب، جبابرة على النساء، وصغار أمام من يفوقهم جبروتاً، وأنّ سيّدك أيضاً له سيّده، وطاغيتك له من يخشاه، صغُر السادة في عينيها، وغدت سيدة نفسها. لا تخاف غير الله، ولا تنبهر إلّا بأصغر كائناته. 
328

بدءاً، تحمّست للمشاركة في هذا الحفل العالمي، كي تضمن أن يراها وقد خلعت سوادها، فيدرك أنّه من خلعت. كان يعنيها أن تقهره. كانت في لونها الجديد شهّية كمؤامرة عشقيّة. تركت له الأسوَد، فليرتدِ هو الحداد عليها. 

(( لكلّ طائر لون صيحته. ارتدت لون العصيان. أرادت أن تثأر لكرامتها لحظة تقع عيناه عليها وهي في ثوبها اللّازوردي. لون اختارته أمّها ليبعد عنها العين، لفرط بهائها، كما قالت. لكن، أثناء استعدادها للحفل، وتدريباتها طوال شهر على الأغاني التي ستؤدّيها، ما عاد الثأر يعنيها، فالهوس بالانتقام، يعني أن نسمح لمن نريد أن نثأر منه بمواصلة إبقائنا أشقياء به. 

اليوم هي تغنّي للناس جميعاً ماعداه. ليس ثوبها، بل صوتها هو الذي يأخذ بالثأر ، من ذلك الحفل الذي أجبرها فيه يوماً على ألا تغنّي لسواه. هو اليوم الغائب الأوحد. أوّل ما اعتلت المنصة، اختفى طيفه من القاعة، غدا خلفها، قرّر قلبها ألا يلتفت إليه، فالنهر لا يلتفت وراءَه. درس آخر تعلّمته من حيث جاءت. 

كما لو أنّه، بمنعها من الغناء، حبس نبعاً، وحال دون مضيّه إلى مجراه، وها هو سدّه ينهار، وهي تتدفّق شدواً. 

هي اليوم امرأة حرّة كما هم (( الشاويّة )): (( الرجال الأحرار)). 
329

صوتُها ناي يحنّ إلى منبته، يعود موّالاً إلى تربته. لا يحتاج إلى ميكروفون، إنه ينتشر مع الهواء، عابراً الأودية، ماضياً صوب الأعالي التي غنَّى منها جدّها. لصوتها شجرة عائلة، تنحدر من حناجر (( أولاد سلطان)). صوتها يسلطن طرباً، يعود إلى قمم الأوراس، حيث وحدها الحبال الصوتيّة يمكنها تسلّق الجبال. صوتها يشدو .. يعلو .. يغنّي: 

نخيل بغداد يعتذر لك

أيّها الراحل باكراً مع عصافير الوقت

ليس هذا الزمن لك 

لم يحدث أن كنت أكثر حياة

كما يوم حللت ضيفاً على مدن الموت



خُطاك كانت تعانق الأرصفة

وعيناك شفة

تقبّل وجنات الصغار

شهياً كنتَ ومنتظراً كنبيّ

لذا ما لزمتَ الحذَر

وأنت تجتاز القدَر

إلى الضفة الأخرى

كنتَ تودّ يومذاك لو أنّ يدك

كانت في يد من تحبّ

لو أنّ قبلةً أخيرةً أودت بكَ

فمتَّ في حادث حبّ

لكنّك سقطت

والعصافير تنقر قمح الحبّ في كفّك 
330

أتكون ذهبت لتسقي بدمك

شجرة الإنسانيّة



يا عاشقاً من حلمه ما عاد

لا تأبه بالموت تماسك

يسأل عنك

عسى تواسي ضفائر الانتظار

وتخلع عن الصبايا الحداد

صوتُها الليلة يُغنّي لحرّيتها. يصدح احتفاءً بها، صوتها الليلة لا يحب سواها. لأوّل مرّة تقع في حبّ نفسها. 

هي ليست معنيّة بالذين يصفّقون لها واقفين، ولا بالذين يتابعونها في بيوتهم جالسين أمام شاشات تلفازهم. حتّى هو، ما عاد يعنيها أن يكون الآن يشاهدها في أحد بيوته، وقد خلعت ما كان يسمّيه (( لونهما)). 

وهو يمجّد سوادها، كان يريد أن يُديم استعبادها، فأثناء ذلك، كان يخونها مع عشيقته الأزليّة، تلك الشهيّة التي لا ترتدي حداد أحد: الحياة. 

الرجل الذي لم يعطها شيئاً، وعلّمها كلّ شيء، تناسى أن يعلّمها درسه الأهم: الإخلاص للحياة فقط. 

ذات يوم، عثرت على حكمة أبقتها في ذهول . بدا لها وهي تقرأها، أنها سرقت آخر أسراره. لكأنّه من كتبها: 
331

(( ارقص كما لو أن لا أحد يراك 
غَنِّ كما لو أن لا أحد يسمعك 
أحبَّ كما لو أن لا أحد سبق أن جرحك)). 

كم من الأشياء تفعل هذا المساء لأوّل مرّة. 

أيتها الطيور، أيتها الجبال، أيتها الأمواج، أيتها الينابيع، أيتها الشلّالات، يا كلّ الكائنات، إنّي أسمع ناياتك تناديني. 

أيّتها الحياة، 

دعي كمنجاتك تُطِل عزفها .. وهاتي يدك. 

لمثل هذا الحزن الباذخ بهجة.. 

راقصيني. 



بيروت، نيسان 2012





الأَسوَدُ يَليقُ بكِ 

ما من قصّة حبّ إلّا وتبدأ بحركة موسيقيّة، قائد الأوركسترا فيها ليس قلبك، إنّما القدر الذي يُخفي عنك عصاه. بها يقودك نحو سلّم موسيقيّ لا درج له، ما دمتَ لا تمتلك من سمفونيّة العمر لا (( مفتاح صول )) ... ولا القفلة الموسيقيّة. 

الموسيقى لا تُمهلك، إنّها تمضي بك سِراعاً كما الحياة، جدولًا طرِباً، أو شلّالاً هادراً يُلقي بك إلى المصبّ. تدور بك كَفالس محموم، على إيقاعه تبدأ قصص الحبّ...وتنتهي. 

حاذر أن تغادر حلبة الرقص كَي لا تغادرك الحياة. 

لا تكترث للنغمات التي تتساقط من صولفيج حياتك، فَما هي إلّا نوتات ... 

أحلام 

(( إنّ أحلام مستغانمي شمسٌ جزائريّة أضاءت الأدب العربيّ)) – أحمد بن بلّة 

أحلام مستغانمي - كاتبة جزائريّة حقّقت نجاحاً جماهيريًّا في العالم العربيّ بثلاثيّتها: (( ذاكرة الجسد)) ( 1993)، (( فوضى الحواس)) (1997)، (( عابر سرير)) ( 2003) ، وكتابها الأخير (( نسيان com)) ( 2009). صنّفتها مجلّة فوربس الأميركيّة في العام 2006 الكاتبة العربّية الأكثر انتشاراً في العالم العربيّ، بتجاوز مبيعات كتبها المليونَي نسخة. 

أحدث أقدم